مثقفون بلا حدود

إصرار سيبويه الفارسي على تعلم العربية

No Image
تصغير
تكبير

المبدع هو الإنسان وليس المكان، فالمكان لا يصنع مجداً للإنسان؛ بل الإنسان يصنع مجده بيده، هكذا كان الفتى الذي ولد بالبيضاء أكبر مدينة في كورة اصطخر في فارس، وجاء مع أهله ليسكن البصرة ويرتع من الشريعة الإسلامية السمحة، ويشرب من اللغة العربية حتى الثمالة، هو «عمرو بن قنبر، فارسي الأصل، يكنى بأبي بشر، ويلقب بـ (سيبويه) ويعني بالفارسية (سيب) بمعنى التفاح، و(ويه) بمعنى الرائحة، وزعم العسكري، أن الاسم من (سي) الفارسية، ومعناه ثلاثون، و(بو) أو (بويه) أي الرائحة ومعناها الثلاثون رائحة؛ أي ذو الثلاثين رائحة» أ.هـ. كتاب سيبويه؛ تح: عبدالسلام هارون. ولفظ (سيبويه) يضبط آخره بالكسر في حالة الرفع والنصب، وهذا شأن كل الأسماء التي تنتهي بـ (ويه).
كان سيبويه شديد الحرص على تعلم اللغة العربية الرفيعة المستوى، الصحيحة المبنى، المستقيمة المعنى، فحينما ذهب إلى البصرة يطلب العلم بها؛ «كان الحديث والفقه من أول ما يدرس العلماء، فأعجبه ذلك وصحب الفقهاء وأهل الحديث، وكان يستملي الحديث على حماد بن سلمة، قال القفطي: (وكان شديد الأخذ) بينما هو يستملي قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه أبا الدرداء) فقال سيبويه (ليس أبو الدرداء) وظنه (اسم لي )، فقال حماد: (يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت؛ وإنما ليس ها هنا استثناء، فقال: لا جرم، سأطلب علماً لا تلحنني فيه فلزم الخليل فبرع». أ.هـ. كتاب المدارس النحوية، شوقي ضيف.
سيبوبه هنا لم ينزعج ممن صوب له خطأه، بل انزعج من نفسه التواقة لتعلم اللغة العربية على أصولها، أن يلتبس عليه مثل هذا التعبير، ونسي أن اللغة العربية مداخل ومشارب، وطرق ومفاصل، ومرآة أوجه، وسهلة صعبة في آن.
«وخبر آخر يرويه حماد بن سلمة، أنه جاء إليه سيبويه مع قوم يكتبون شيئاً من الحديث، قال حماد: فكان فيما أمليت ذكر الصفا، فقلت: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا)، وكان هو الذي يستمل، فقال:(صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفاء). فقلت: يا فارسي لا تقل (الصفاء)، لأن (الصفا) مقصور. فلما فرغ من مجلسه كسر القلم وقال: لا أكتب شيئاً حتى أحكم العربية» أ.هـ. كتاب المدارس النحوية، شوقي ضيف.
من خلال الحادثتين سالفتي الذكر يتضح أن سيبويه شديد الحرص والإصرار على تعلم اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ولعل عبارة (يا فارسي) أثارت في نفسه تحديات كثيرة على أن يفرض نفسه في ساحة معركة العلم، حتى أطلق عليه (إمام النحو العربي)، وسمي كتابه بـ (قرآن النحو)، الذي يعدّ إرثاً خالداً إلى يومنا هذا.
سيبويه الإنسان الناجح والمتفوق على أقرانه، لم يهزم إلا بالحيلة والمكر والخداع والخيانة والمؤامرة الدنيئة، وهذا شأن الضعفاء والفاشلين وخصومة الفجور.
إذا رأيتَ ثم رأيتَ إنساناً ناجحاً في مكان ما؛ فلا تذهب وراءه تنشد النجاح، فقد تكون مقومات النجاح توافرت لديه ولم ولن تتوافر لديك مطلقاً، وقد يكون هذا المكان سبباً لتعاستك، والقضاء على ما تبقى لك من اسم أو سمعة.
حكمة المقال: لا تكن ضحية لأحد، بل كن شوكة في حلق أحدهم.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
- بمناسبة اليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية في 18 ديسمبر من كل سنة.

fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي