مثقفون بلا حدود

ياسمينة... من أفلام الثورة الجزائرية (3 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

تُرى ماذا أراد المخرجان الجزائريان جمال شندرلي ومحمد الخضر حامينة أن يقولا؟ ثلاث صور مركبة تركيباً مزجياً (ألم وعذاب ومعاناة وإصرار وتحد ومقاومة وكفاح وشموخ وأنفة ومستقبل مشرق وحرية مؤكدة، بفضل الله عز وجل ورغماً عن أنف المستعمر).
إذاً هذه البداية أو هذه الطريقة الاستعراضية كان لها مغزى، ألا وهو إسقاط القناع عن المستعمر وكشف زيفه، وتعريته أمام المجتمع الدولي.
وصلت الأسرة المشردة إلى مسقط رأسها، وهي صورة رمزية أخرى تعكس الأصالة والعراقة والتشبث بالجذور، فمهما ابتعد الإنسان عن بيئته؛ يظل محتفظا بجذوره، متمسكا بعاداته وتقاليده، مراعياً صلة الرحم. إنها الهوية والمواطنة الجزائرية التي لم ولن يفهمها المستعمر؛ فالجزائري يظل جزائرياً في بقاع الأرض، هو هكذا عُرف في المغرب وفي المشرق وعندنا في الخليج العربي، الجزائري لن يتنازل عن جزائريته لو أغدقت عليه (أموال قارون كلها)؛ فإنه يأبى إلا أن يكون جزائرياً.


أما في اللوحة الختامية لهذا الفيلم فيجسّد المخرجان الرائعان صورة للتعاون والتكافل الاجتماعي في أحلك الظروف؛ لقد صوّرا هذا الالتفاف حول الأسرة، وقد شكّل هذا الالتفاف من أهل القرية دائرة وفي الوسط شكلت الأسرة المنكوبة المكونة من أم وابنة «ياسمينة» وابن، الرقم صفر، والرقم صفر هو من اكتشاف العرب، وبداية حلّ كل النظريات، الصفر ساعد على فك رموز الأرقام؛ إذا من هذا الصفر (الأسرة المشردة التي تجسّد قمة المعاناة) من الجراح ومن الآلام ومن العذابات سوف يبدأ الجزائري، وستنطلق الثورة المدويّة، هذا الصفر ركيزة ودعامة لما هو آتٍ وعلى المستعمر أن يترقبه.
ما فتئ المخرجان الجزائريان يصوران لنا الفيلم الدرامي والفيلم الوثائقي في آن واحد، فكل لقطة من صورة درامية للفيلم تواكبها صورة وثائقية من قلب الحدث لما يجري في أرض الجزائر من مجازر على يد المستعمر، وهما بذلك يسجلان للتاريخ أبشع الجرائم للمستعمر على أرض الجزائر، كما يسجلان أروع البطولات الجزائرية.
رجال القرية وعلى وجه السرعة يقومون ببناء كوخ صغير لهذه الأسرة، هنا رمزية النخوة والشهامة العربية الإسلامية، نساء القرية يساهمن بتجهيز هذا الكوخ من (مفارش، حطب للنار، أواني منزلية للمطبخ ).
منذ الصباح الباكر نهضت الأم؛ لتقوم بمهامها كمسؤولة عن أسرة، وهي رمزية لمكانة المرأة الجزائرية التي لا تعرف القهر، ولا تستسلم لصروف الدهر، ولا ترضخ لرغبة المستعمر وأطماعه في أرضها، بل هي الجزائرية كما عرفناها أخت الرجال التي تسمو فوق الجراح والآلام، الآن لا وقت لتحسس الأوجاع، بل على العكس تماما فقد انطلق المخرجان من هذه الأوجاع ليبعثا رسالة موسومة بالحرية والكبرياء، ومفادها لا للضعف لا للاستكانة، فمع كل صباح ستروْن الجزائريين أكثر إصرارا على التمسك بأرضهم، وأشد بأسا لتحرير بلدهم.
منذ بداية الفيلم و«ياسمينة» تحمل بيدها دجاجة، ترافقها في كل مكان، الدجاجة برفقة «ياسمينة» وفي يدها، لم يكن اعتباطا ولا تسلية ولا لفت انتباه؛ بل قد ترمز هذه الدجاجة للخوف وقد تكون رفقة الحيوان - أحياناً - أفضل من رفقة الإنسان؛ فالإنسان مثلما هو مصدر خير أيضاً هو مصدر شر، وقد ترمز هذه الدجاجة لقلة الحيلة فالمصير واحد ومشترك.
ما الذي تستطيع أن تفعله «ياسمينة»؟ وما الذي تستطيع أن تفعله الدجاجة؟ لا شيء؛ سوى الاستسلام للواقع والإيمان بقضاء الله وقدره، وترك الأمور لأصحاب الشأن، وقد ترمز هذه الدجاجة للأنسنة والتعايش في بيئة يسودها الحب والأمن والأمان والاستقرار؛ فلا «ياسمينة» ولا دجاجتها استطاعتا أن تتعايشا مع القصف والهدم والتخريب والبطش والقتل؛ فحينما رحلت «ياسمينة» طبيعي جداً سترحل معها دجاجتها، وتتعدد رمزية الدجاجة في هذا الفيلم، وتبقى الرمزية من وجود الدجاجة بيد «ياسمينة» لغزا يحلّه المخرجان الجزائريان الرائعان جمال شندرلي ومحمد الخضر حامينة.
 
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي