الفزعُ إلى الكتابة
إذا ما تلبّدت سماء قلبي بغيوم الوجع، وحاصرتني جيوش الهمِّ من كل جانب، فَزِعتُ إلى الكتابة، ففيها أجد سلوان نفسي، وترياقاً من سموم الدهر، وتطبيباً لجراحه، وفيها، أتنفس الصعداء.
أفزع إلى الكتابة حنيناً إلى نفسي، تلك التي غيّبتها عني تفاصيل الحياة ومتاعبها، ففتقت بيني وبينها، حتى كأني بِتُّ لا أعرفها!، حنيناً إلى نفسي، إلى صوتها الصادق، وأي فعل تكون النفس صادقة فيه أكثر من أن أجدها تخلو بمفردها في فعل الكتابة؟، ففي عالم الكتابة، يتعذر عليك النفاق والكذب، إنه عالم تنساب فيه النفس، منهمرة ببراءتها كالسيل، تبدي ما أخفاه اللسان وسترته ملامح الوجه.
وفي الكتابة، أجدُ نفسي العميقة، ذاتي الحقيقية، تلك النفس المكنونة في بصمات الحروف، التي كلما دنوّت منها، تكشّفت أمامي عوالم واسعة، منطوٍ بعضها على بعض!، تبدي لي الكثير عنها، حتى كأني للتو أتعرف على ذاتي!
ذلك أن الكتابة في فعلها، كما المجهر الميكروسكوبي، تميط اللثام عن بواطن الأمور، وتكشف عن عينيك ما أخفي من مكنونات الذات، لن يعينك على الوصول إليها مجرّد نظرك البسيط، فكلما زدت من درجة عمق المجهر، اتضحت لك رؤية أدق لنفسك.
ومع إتاحة ذاتك فرصة بث همومها عبر فعل الكتابة، فأنت تقوم بدورين في الوقت آنه، دور المصاب بالداء، الشاكي الكاشف عن باطنه، ودور الذي يحاول أن يقدم الدواء!، فأنت تبث همومك كما يبثها الموجوع من الآلام، وأنت في الوقت عينه تمارس دور الطبيب، المستمع برحابة صدر لهذه الآهات. تتأمل كثيراً في ما نثرته من كلمات، تتفحصها جيداً، تبحث عن تشخيص للحالة، فتحدد مكامن الأوجاع، لتجد لها الدواء الذي يناسبها.
أن تكتب، يعني أن تُخرِجَ جزءاً من ذاتك، يكشف عن نفسك. ولأن الكتابة هي عملية تفاعل بين العقل والقلب، فإن ما تنثره من أحرف يُعرب عن جوهر عقلك وقلبك، وإذا كنا نردد مقولة سقراط الشهيرة «تكلم حتى أراك»، فإننا نستطيع أن نقولها أيضاً، اكتب كي أراك، اكتب... أرني أنظر إلى عقلك وقلبك!
الكتابة هي الملاذ الذي أهرب إليه من هذا العالم المجنون، ففيها أعود إلى رشدي وإنسانيتي. في عالم الكتابة تُنسَجُ الأفكار بلغة المنطق، لا بلغة القمع وقلب الحقائق، كما هو الحال في عالم المجانين. في الكتابة امزج أفكاري بعاطفة ضمير حي، ينهض إذا سمع نداء الإباء، يحب من يستحق الحب، ويكره من يستحق الكره، لا منعدم الضمير، لا متزلف ولا منافق، كما يراد لك أن تكون في عالم المجانين.
وفي الكتابة ملاذ، يجد فيه الغريب وطناً يؤويه، وطناً من كلمات وحروف، يحتضنك بمعانيه.
النجاة من الغرق
ولأن الكتابة الرصينة ليست سلعة رخيصة، فإنه لا يمكنك أن تتقن هذه الصنعة إذا لم تكن تجيد فن الغوص!، فالسباحة على السطح فقط، وإن أجهدت نفسك بها، فلن تنتج سوى الأفكار السقيمة، والفاترة المملة. ولك أن تنظر إلى الكتابة، بعد أن فقدت صدقها، وامتطاها المراهقون، كيف غدت، متهافتة مبتذلة فارغة.
فحذار أن تكتفي بالسباحة في السطح، فذلك لن يمكنك من استخراج الجواهر المكنونة من فعل الكتابة، ذلك أن الفكرة العميقة تتطلب منك إيغالاً في الغوص، ونسجاً دقيقاً لشبكة الأفكار. ولأن في أعماق نفسك الكثير مما يخفى، فعليك بالمزيد من الحفر حتى تظهر حقيقتها وإبداعها.
إنك عندما تحسن الغوص في فعل الكتابة فأنت تجنب نفسك الغرق من مآسي الدنيا، بل وتكون لك القدرة على إنقاذ الآخرين الذين ينازعون الغرق، ممن تلاطمت في دنياهم أمواج الهموم، وأخذت تضربهم عواصف البلاء.