مخيف كتاب «حفيدة صدام» لراويته حرير حسين كامل. فما ترسمه هذه الفتاة، التي يبدو من السياق الطبيعي للصفحات أن والدتها رغد هي من كتب الجزء الأساسي من هذه «الملحمة»، هو تبرير للمجزرة التي ارتكبت وترتكب يوميا باسم البطولة والفداء والتضحية والتاريخ والأمة والدين والشهامة.
محزن جدا أن يتوقف العقل العربي في محطة العقائد التمجيدية للزعيم ليقال إن الناس بقدر ازدياد ضعفهم بقدر ما تزداد قوة قائدهم وبطلهم، فهم الفقراء وهو من أغناهم، وهم المتعبون وهو من أراحهم، وهم الجائعون وهو من أطعمهم، وهم الخائفون وهو من حرسهم، وهم اللاجئون وهو من آواهم، بل تكتب الحفيدة حرفيا أن صدام لم يكن ينام ساعات قليلة في الليل كي ينام العراقيون. أما أنه هو الوصولي الذي احتل الحكم عبر الدسائس والمؤامرات، وهو من غدر برفاقه، وهو الحاقد على المتنعمين، وهو الخائف من لحظة تسلمه السلطة إلى لحظة وفاته، وهو الجبان الذي هرب مع أول طلقة رصاص، وهو من أدخل بلده وشعبه في دوائر الرعب والقهر والجوع والحروب... فكلها إشاعات من أعداء «القائد».
في مقدمة الكتاب، يتلقى الأحفاد عتباً من صدام حسين لأنه وجد آثار مشروب البيبسي في كوب على الغداء. فيقول بما معناه أن الشعب العراقي خلال الحصار (الذي تسبب به) لا يستطيع شرب هذه المرطبات فكيف تشربه عائلة صدام؟
مدخل مقصود لتكوين انطباع يرافق القارئ مع تقليب الصفحات. لكن الذي يملك الحد الأدنى من التفكير يلحظ كم أن الكاتبة منفصلة عن الواقع والوقائع وأن الأجدى بها أن تخضع فعلا لعلاج نفسي يخرجها من منطقة الإيمان المطلق بشخص إلى منطقة الرؤية الواقعية. ففي أحد الفصول تكتب حرير أنها كانت في مدرسة في الأردن منتصف تسعينيات القرن الماضي وإذا بطلاب يرمون عليها كرات ثلج فسألت المعلمة لماذا يفعلون ذلك لترد الأخيرة بأنهم كويتيون ويكرهون صدام. فاستغربت حرير لا من احتلال الكويت وغزوها وتشريد أهلها وقتل ناسها وحرق آبارها بل (حرفيا) لأنها «كانت تلك المرة الأولى التي نفهم فيها أن هناك من لا يحب جدي في هذه الدنيا... غامت الدنيا في عيوننا».
يصل إيمان حرير بجدها صدام حد التبرير له بطريقة أو بأخرى قتل والدها حسين كامل وعمها صدام حسين كامل، تقول إنه أصدر عفوا قانونيا عنهما لكن علي حسن المجيد استأذنه بأن يقتلهما «عشائريا» وأنه ما كان يمكن أن يعفو عنه بالشخصي كي لا يقول العراقيون (وكأنهم كانوا يقولون!) لماذا عفا عن صهريه ولم يعفُ عن بقية الناس. حتى عدي خالها الذي كان مع قصي يتابعان تنفيذ قتل حسين كامل وشقيقه بدم بارد فهما أيضا معذوران وتمت مسامحتهما. المهم ان من نفذ القتل هم من عشيرة عبد الغفور وليس صدام رغم ان نظرة منه – لا مجرد كلمة – كانت كفيلة بوقف القتل.
موضوع جرائم صدام حسين بحق العراق والعراقيين ودول الجوار لا يناقش طبعا لا مع ابنته ولا مع حفيدته وكل كلمة في الكتاب يمكن أن يرد عليها بألف كلمة إذ ما هو إلا «شغل علاقات عامة لتعديل صورة مفتتة»، لكن العودة إلى مقدمة الكتاب الدالة على التقشف وحرمان الأحفاد من مرطبات لا يستطيع العراقيون شراءها نتيجة الحصار يبدو كنكتة سمجة مع توالي الصفحات التي تظهر حجم المال والثروات والقصور والسلطة المطلقة لرجل يعتبر خزينة الدولة مصروف جيبه. فحرير تروي أن جدها وجدتها ساجدة كانا فقراء واستأجرا في بداية زواجهما بيتا صغيرا طردتهما منه صاحبته لأنهما قصرا ماديا. ثم أصبح الرجل رئيسا من أغنى الأغنياء مع أنه لم يكن تاجرا أو «بيزنس مان» أو مستثمرا بل متفرد بالسلطة على جثث رفاقه وشعب العراق. وبالمناسبة فلطالما اعتبرت حرير في كتابها أن كل شيء تعرض له صدام أو العراق هو بفعل الخيانة سواء من رفاق الدرب أو من العراقيين. لا مكان للأخطاء ولا للظلم ولا للقمع ولا للقهر ولا للديكتاتورية بل... للخيانة.
تتحدث حرير في سياق الكتاب عن القصور التي يمتلكها كل فرد من أفراد أسرة صدام. عن الذهب والخيل والانتيك والتحف واللوحات. عن الطلبيات التي تأتي من لافاييت وغيرها من المجمعات التجارية العالمية وبيوت الأزياء، عن أعراس أبناء السلطة التي يغني فيها كاظم الساهر وحاتم العراقي. عن سيارات عدي وحفلاته وقصر قصي والمدرسة الخاصة التي أنشئت لأسرة صدام وأقاربه. عن وضع غالبية أهله وعشيرته في مراكز السلطة.
في المقابل تتحدث عن ذهابها إلى أحد المساجد برفقة شيخ ذات مرة أعطاها بعض المال لتنفقه على فقراء فكان أن حاصرها عشرات الجائعين طلباً للمال ما أدى إلى تدخل الحرس لتفرقتهم عبر رمي المال الى جهة بعيدة فانقض الشحاذون عليه وأفلتت هي من الحصار. تتحدث عن شرائها لحاجاتها من ملبس وخلافه من دون أن تدع السائق يدخل الى المحل معها خوفاً من أن يعرف أن قيمة ما تشتريه بيوم يوازي راتبه الشهري.
عدا عن المال، تتحدث حرير عن معلمة الرياضيات العراقية التي تزيد لها العلامة كونها حفيدة صدام، وعندما درست في الأردن اتهمت بالكذب وعوقبت لأنها لم تعرف الإجابات، وذكرت بالحرف بعد سحب المعلمة الورقة منها: «أحسست أن شيئا من هذا لم يكن ليحدث لو صدام حسين كان هنا».
التفاصيل المنشورة في الكتاب تثبت كم كان العراق بمثابة مزرعة لصدام مثلما هي حال دول اخرى انتقلت من سلطة الحزب إلى الجيش إلى العائلة ثم إلى فرع من العائلة ثم الى ابنين فابن واحد لو لم تتغير الظروف، وتؤكد أن العقل العربي محاصر بدائرة القداسة لأشخاص وهي الدائرة التي منحت أشباه صدام الموجودين الآن وكالة للقتل والإبادة باسم الدين أو العمامة أو الحزب أو الوطن أو الأمة.
ولمن احترق قلبه على منع حرير من شرب البيبسي صغيرة، نطمئنه أن في الكتاب صفحات تتحدث عن شرب صدام لنوع معين من المرطبات إنما «دايت»، وعن خلط عدي للكحول في المرطبات. ومن يتذكر مئات ملايين الدولارات التي سحبت باسم صدام وأبنائه من البنك المركزي قبل انتهاء حكمه يدرك كم أن الصورة التقشفية في مقدمة الكتاب ساقطة... ومع ذلك سنجد من يصفق ويعجب ويترحم.