نوستالجيا انتفاضة الاستقلال

تصغير
تكبير

أعادت حادثة البساتين والإشكال بين مناصري زعيم الدروز وليد جنبلاط والنائب طلال أرسلان، حليف حزب الله وحصان طروادته، الكلام عن ضرورة تشكيل حركة سيادية لبنانية شبيهة بحركة الرابع عشر من آذار، التي قادت حملة جلاء الاحتلال السوري العسكري والسياسي عن لبنان عام 2005.
ورغم ضرورة تشكيل جبهة سيادية لإنقاذ ما تبقى من الدولة اللبنانية من هيمنة حزب الله وسياسته التوسعية الإيرانية، ورغم قصر نظر وجشع بعض الساسة اللبنانيين، فإن تشكيل تلك الجبهة بنفس الخطاب والأفراد وقواعد الاشتباك سيكون كارثياً على لبنان، وستُمكن حزب الله وحلفيه بشار الأسد من الإطباق الكامل على لبنان تحت ظروف عدة.
فحركة 14 آذار لم تتشكل بسبب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فقط، بل أتت نتيجة نضال شاق وطويل من قبل كافة الأطراف اللبنانية، ورغم ريادة الأحزاب والشخصيات المسيحية لتلك الحركة فهي لم تتبلور بشكل وطني إلا بعد دخول قادة غير مسيحيين إلى صفوفها، وعلى رأسهم وليد جنبلاط ورفيق الحريري.


والأهم من ذلك أن هذه الشخصيات كانت على اضطلاع دقيق بالأوضاع الإقليمية والدولية وصبرت بما فيه الكفاية إلى حين نضوج الفرصة لتحويل اجتماعاتها من قاعات الفنادق والأديرة إلى حركة مطلبية وسيادية عابرة للطوائف.
ولعل الأهم من ذلك، أن أحد أبرز أعضاء الحركة السيادية غير المعلنين آنذاك كان رئيس مجلس النواب نبيه بري حليف سورية التقليدي في لبنان، الذي اعتبر نفسه غير معني بحملات القوى السيادية العنيفة على حلفاء بشار الأسد في لبنان. مشهد بري في الصفوف الأولى في جنازة الحريري كان رسالة واضحة لبشار الأسد بأن ساعة رحيل قواته عن لبنان قد دقت، وهي ساعة جلاء أنتجت الحلف الرباعي الذي كان بداية نهاية حركة 14 آذار.
أربع عشرة سنة مرت على تشكيل الحركة السيادية التي ورغم تخييبها آمال اللبنانيين استطاعت أن تذكّرهم ولو لبرهة بأن الدولة وحكم القانون هما السلاح الوحيد لحمايتهم داخليا وخارجياً. حزب الله وأمينه العام استطاعوا آنذاك وبالتنسيق مع القوى السيادية تأمين انسحاب حلفائهم السوريين «بكرامة» عبر تنظيم مظاهرة «شكراً سورية» في الثامن من آذار سنة 2005.
ولكن حزب الله الذي قرّر اللبنانيون آنذاك مهادنته ليس هو نفسه الحزب الذي يسيطر اليوم على الدولة اللبنانية وينتشر عبر الحدود في سورية والعراق واليمن وحتى مدينة نيويورك. حتى حسن نصر الله نفسه كان مستعدا سنة 2005 لمنح رفيق الحريري صفة الشهيد، وأن يسمح لأفراد حزبه بأن يذرفوا الدمع على قبره. أما الآن، فإن قوافل «الشهداء» في معركة الدفاع عن مشروع قاسم سليماني والمقامات الدينية تدفع بنصرالله إلى اتهام المطالبين بالعدالة لدم الحريري بالعمالة للصهيونية العالمية المتحالفة مع الشيطان الأكبر أميركا.
المطالبة بتشكيل حلف سيادي لبناني لمجابهة النسخة الجديدة من حزب الله يجب أن تراعي الظروف الإقليمية ولا سيما أن العالم العربي وخصوصاً دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة السعودية لم يعد يرى لبنان الصديق الصدوق، بل منصة يستعملها حزب الله لإطلاق المواقف المعادية له.
أما في البيت الأبيض فإن غياب سياسة واضحة شبيهة بمغامرة جورج بوش الابن سنة 2003 في غزو العراق وانحدار شعبية الرئيس ترامب يسمحان لإيران وروسيا بإضعاف واحتواء أي مبادرة لبنانية سيادية لتحييد لبنان عن حفلة الجنون الجماعي.
ورغم ذلك يجب على اللبنانيين ان لا يراهنوا على الخارج بل يأخذوا زمام المبادرة عبر الدفاع عن قيمهم ونظامهم الديمقراطي الذي أصبح من الماضي.
مواجهة حزب الله أو أي مشروع لقضم لبنان يجب أن تنطلق من أسس واضحة، قوامُها حركة سيادية بعيدة كل البعد عن شراكة هذا العهد ولا سيما من يمثله من جبران باسيل إلى حزب الله وغيرهم في المحاصصة السياسية والاقتصادية القائمة، خصوصا وان نبيه بري بحنكته وخبرته الواسعة قد نعى مؤخرا هذه الشراكة حين أعلن أن المواجهة بين وليد جنبلاط والرئيس ميشال عون هي أشبه بأزمة 1958.
وبذلك يكون بري قد أبلغ صديقه التاريخي وليد جنبلاط استسلامه بعدما أصبح عاجزاً عن ردع حزب الله المصمم على تطويق الطائفة الدرزية واستخدامها طعماً لتأديب الطوائف والأحزاب الأخرى. واتهام باسيل وحده بعرقلة الحكومة كما هو الحال الآن يسمح لحزب الله بالاستمرار بالتمترس وراء باسيل وحزبه الجامحان الى المال والسلطة، ويؤخر إن لم نقل يجهض قيام حركة سياسية معارضة جديدة في وجه حزب الله وأخواته.
وللمواجهة، يجب على اللبنانيين أيضا مطالبة ساستهم وعلى رأسهم الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع بالاعتراف بفشل التسوية الرئاسية التي جاءت بمرشح حزب الله إلى قصر بعبدا. إن مثل هذا الاعتراف الشجاع هو بداية لمغفرة سياسية تجرّد العهد وحلفائه الإيرانيين والسوريين من الشرعية التي يسخرونها للسيطرة على لبنان.
لبنان لم يعد طفل الغرب والخليج المدلل، بل اصبح دولة مارقة دخلت في موت سريري اقتصادي وسياسي. لذا، فإن أي ثورة سيادية يجب أن تبدأ مع الذات وفي الذات -كما يقول الكاتب توني بامبارا- عبر تقدير الخصم أي حزب الله ومعرفة مستوى نزعته الانتحارية في سبيل إنقاذ نفسه و أسياده في وجه العقوبات الأميركية، والتي بطبيعة الحال ستأتي على حساب لبنان وشعبه.
لا شك في أن المرحلة المقبلة ستأتي بالمزيد من الخيبات والتحديات على لبنان، ومن هنا يجب علينا التخلي عن نوستالجيا الماضي وإن كانت مشرقة، والاستعداد لمواجهة طويلة الأمد وصعبة تحت عنوان واحد وواقعي هو إنقاذ الدولة اللبنانية من براثن الطغاة المحليين والإقليميين، وإنقاذهم من أنفسهم اذا اقتضى الأمر ذلك.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي