قضية
مشاهير الأدب... في زمن الانطفاء الإبداعي
اخترق الساحة الأدبية بوصفه روائياً مشهوراً... وتصدر صفوفها الأولى، ليس من خلال تمتعه بالمواصفات الإبداعية المدهشة، وليس من خلال قدراته الجذابة في اختيار مفرداته وموضوعاته، ومعالجتها أدبياً، وليس من خلال تحيّزه الإنساني للمهمشين - رغم إقحامهم في كتاباته والادعاء بأنهم في ضمير اهتماماته - ولكن هذا الاختراق جاء... من خلال قربه من أولئك الذين يمتلكون القرار، ويتمكنون من إعلاء أو خفض من يشاؤون بدواع مزاجية تارة وتنفيعية تارة أخرى وصولاً إلى دواع تتدخل فيها الوساطات والمحسوبيات.
إنه الذكاء الاجتماعي، الذي يتمتع به ولا يملك من المواهب سواه، هو الذي أوصله إلى أن يصبح مشهوراً في الساحة الإبداعية، الذكاء الذي سهل له مسألة أن يكون قريباً من أصحاب القرار، وأن يكسب ودّهم ويقنعهم بأنه روائي يستحق أن تطبع كتبه لديهم، وأن تكرس مؤسستهم المعنية بالنشر الرسمي، من أجل الترويج لأعماله، ويأتي دوره التالي والذي يتمثل في إيهام المتابعين لحسابه الإلكتروني بأنه يكتب أدباً لم يأت بمثله الأولون ولا المتأخرون، ودليله ثقة المؤسسة الرسمية به وطباعتها لكتبه بسهولة ويسر... ومن العجب أنه يجد مقتنعين كثر بمبرراته، ليعد بين ليلة وضحاها... روائياً تستضيفه الفضائيات وتجرى معه الحوارات!
ثم تأتي المحطة الأخرى - والتي لا تقل أهمية عن محطتي التقرب من أصحاب القرار وإقناع رواد المواقع الإلكترونية بأنه روائي «فلتة»، تلك التي يستخدم فيها كذلك الذكاء الاجتماعي، وإقناع من يتعين إقناعه بترجمة رواياته إلى لغات أجنبية مختلفة، ولا يهم وقتها الانطباع السيئ الذي يلتصق بأذهان من يتحدثون بهذه اللغات وفقدانهم الثقة في الإبداع العربي، من خلال النماذج الرديئة التي اطلعوا عليها، في ما تظل النماذج الأخرى المتميزة غائبة عن عيونهم، كونها لم تحظ بالترجمة، وهذا الأمر يضعه هذا الروائي «الفلتة» في سيرته الذاتية، كي يضخم من منجزاته وتفوقه الوهمي.
والمحطة الأهم - التي جاهد هذا المدعي خلال المحطات الأخرى ليصل إليها، والتي تعد من أهم أهدافه التي يريد الوصول إليها - تلك المتعلقة باختراق حواجز الجوائز الأدبية، وهي مسألة سهلة بالنسبة له بعد اجتيازه المحطات الأصعب، فالمحكمون للجوائز يرونه روائياً مشهوراً لديه كتب طبعت من مؤسسات رسمية مهمة، ولديه متابعون كثر على الإنترنت، وإصداراته مترجمة إلى حزمة من اللغات الأجنبية، والفضائيات تحتفي به بشكل مبالغ فيه، كما أنه – وهذا هو الأهم - يعرف أرقام هواتفهم، ولديه القدرة في «تنفيعهم»، وإفادتهم من خلال علاقاته المتشعبة، ولأن لديه الذكاء الاجتماعي الذي يجعله متقدماً على من سواه من المبدعين المشاركين في المسابقة الأدبية، فإنه سيحصل على الجائزة... وقتها ستلتصق به صفة الروائي المبدع، ولن يستطيع أحد الحديث عن تواضع موهبته، لأن التهمة جاهزة: «ناقم وحاقد».
هذه هي الحكاية، التي بفضلها تراجع الأدب، ليصل إلى مراحل متأخرة من التدني، وهي الحكاية نفسها التي بسببها لم تعد الثقة متوفرة في الإبداع العربي، حتى أن الرديء أخذ في طريقه المتميز، وبالتالي آثر الأدباء الذين نعتز ونشتاق إلى إبداعاتهم الاكتفاء بأنفسهم والعزلة، التي لا نعلم متى ينتهي وقتها.
لقد سمحت الأحوال العربية المتردية لأن يتبوأ المكانة الأدبية أصحاب المواهب الضعيفة، الذين لديهم أفواه فارغة يتحدثون بها، وقدرات اجتماعية فائقة في «تضبيط» المصالح، والدعاية لبضائعهم الفاسدة، والتحرك المحموم في سبيل الترويج لأنفسهم، بينما الآخرون من الذين تتملكهم الموهبة، قاعدون لا يستطيعون مجارات مثل هذه الفوضى، وما زالوا على قناعاتهم في أن نصوصهم الإبداعية هي التي تتحدث عنهم، وليس هناك من داع كي يروجوا لها، ويتمسحون في بعض النقاد الذين يكتبون حسب ما يتحصلون عليه من مصالح.
إنه الإفساد الأدبي الذي أجهز على حق المجتمعات العربية في التباهي بإبداعات كتابها، والاستمتاع بها، والبحث في مضامينها ومعانيها عن السبل التي يريدون من خلالها فهم واقعهم وتحليله.