من الغزو إلى التحرير... رواية وافد صامد على أرض الكويت

u0627u0644u0642u0648u0627u062a u0627u0644u0643u0648u064au062au064au0629 u0644u062fu0649 u062fu062eu0648u0644u0647u0627 u064au0648u0645 u0627u0644u062au062du0631u064au0631
القوات الكويتية لدى دخولها يوم التحرير
تصغير
تكبير

من «مانشيت» الـ11 ليلاً إلى «هزّة» الرابعة فجراً... تغيَّرَ الزمن

«يولاندا» المربية فضّلت أن تذهب حتى لا تقاسمنا الرغيف

«وحيد» إلى «أبو غريب»... كان يوزّع الخبز على المحتاجين

أمام إشارة المرور كنت على موعد مع الموت... لكن الله سلّم

صدمت عن غير قصد ضابطاً عراقياً فأتاني قائلاً «مو الحين آخذك أبو غريب وأشلع قلبك»

أصدقائي الكويتيون كانوا يزودوننا بالتموين والطحين والأرز

مع بدء الحرب الجوية حوّلنا الطابق السفلي في البناية ملجأ محصناً بالوسائد والأغطية للعائلات

أدركنا أن فجر التحرير انبلج... عندما تسلّلتُ إلى سطح العمارة لأشاهد الجنود العراقيين يتحركون كمن ضُرب على رأسه بغير هدى

تسعة وعشرون عاما مرّت... وكأنها البارحة...ذكرى وُشِمَت في الذاكرة تستعصي على النسيان.
الخميس 2 أغسطس 1990 وما تلاه حتى يوم التحرير، شريط من الذكريات والمشاهد والمناظر... قل ما شئت عنها، لكن ماذا عساك تقول إن كنت شاهد عيان، كنت في لجّتها ليس شاهداً، بل مصاب مجروح مهموم محزون... هي أكبر من أن تكون مجرد قصة تروى... هي نبض ودمعة وقطرة دم وانكسار فؤاد وألم وأمل... ومن الألم ينبثق الأمل... كل حرف من حروفها عِبرة وعَبرة.
لم أسجّل مذكراتي منذ ذلك اليوم، بالرغم من أنني أنوي أن أفعل ذلك، ربما في كتاب من باب السيرة الذاتية، لكنني أستطيع أن أوجز بعضاً مما تجود به الذاكرة ويتسع له المقام في ما يلي من سطور، مثمّنا الفرصة التي لا تُعوّض، ومزجيا الشكر الى صاحبة الجلالة، ومرآتها جريدة «الراي» أن أتاحت وبكرم لسرد التالي من الكلام...
أستطيع بداية أن أدّعي الوفاء... شهودي زوجة كبرت ونمَت على حب الكويت، وقد أتتها طفلة في أواخر الخمسينات، ولا تزال «ترابط» على هذا الحب، وثلاث بنات، جميعهن ولدن في الكويت، وأصغرهن كانت في سن الأربعة أشهر وقت «اليوم المشؤوم». هؤلاء كانوا معي، عاشوا معي، وتحملوا مسؤولية القرار الذي اتخذته منذ حدوث الغزو، بأنني لست بمغادر الكويت إلا بعد أن تتحرّر... بإذن الله.
أما أنا فأعرّف عن نفسي بأنني وافد لبناني الجنسية، كان من حسن قدري أن أفد الى الكويت في أحد أيام يوليو من العام 1976، وكان عمري وقتها يشارف على السادسة والعشرين، وما زلت «قابضاً» على حب البقاء في بلد أحببته وقد شارفت على السبعين.

صبيحة الخميس
في ليلة الثاني من أغسطس، وكنت محررا في إحدى الصحف، سهرنا حتى ما يقارب الحادية عشرة ووضعنا «المانشيت» وكان عن متابعة المحادثات إثر ما افتعله النظام العراقي حينها، وأغلقت درج مكتبي وقفلت عائداً الى المنزل.
لا أنسى صبيحة الخميس، وزوجتي تهزني هزاً وقد استفاقت مذعورة على اتصال من إحدى صديقاتها، بأن العراق غزا الكويت...
استفقت مرعوباً، لم أستوعب، أسئلة كثيرة حارت في ذهني، أيعقل ذلك وكيف؟ أخرجتني منها جلبة سيارات أمام المنزل، فتحت باب الشرفة وأطللت، وإذ بعدة سيارات عسكرية تتوقف أمام البقالة. حقاً إنهم هنا... وكأن الزمن تغيّر.

أصبحت غريباً
سأقف عند جملة من الأحداث فقط، أستهلها بما جرى يوم الخميس، ماذا فعلنا، ولقاء الأهل والأقربين، والسؤال ماذا سنفعل؟ بعد أن بتنا رهينة الأخبار الآتية عبر الأثير وعلى شاشة التلفزيون، وحبيسي السؤال الكبير والألم الكبير... كيف حدث ما حدث؟
للمرة الأولى أحس بالغربة بعد أن ضاع ما ضاع، ومن بينه حلمي وأملي واستقراري، لم تكن تلك أنانية، بل حقيقة، فالأرض صغرت على ما رحبت، والحزن كان يعتصر القلب ونحن نستمع الى أهل وجيران سكن، معلنين العزم على المغادرة إلى بلدانهم، مع ما في ذلك من مغامرة، خصوصاً لمن لديه أطفال.

... سأبقى
نظرت الى «زينة» طفلتي ابنة الأشهر الأربعة، وأعلنت عزمي على البقاء رحمة بها وبي، مهما حدث، وكانت زوجتي من رأيي وهكذا كان.
لن أنسى ما حييت، الأيام الأولى من الغزو، وتلك الطاقة الجبارة التي تفجرت في نفوس أهل الكويت، حين كان يأتيك التهليل والتكبير، لتحسّ بأنك معني كما هم معنيون.
لازمنا في الأيام الأولى المنزل، كان الخوف يأخذك الى «أماكن» كثيرة عندما تقود السيارة وكأنك ذاهب الى المجهول، أو عندما تقف أمام «سيطرة» كما كانوا يسمونها، وشباب في مقتبل العمر مدججون بالأسلحة، يتولون مهمة قرار السماح لك بالمرور من عدمه... حياتك كلها ومن معك رهن قرار شاب صغير.

شهامة... يولاندا
كان القرار الأول أن نفرغ ما في البراد، رغم أن الكهرباء لم تنقطع وهكذا كان في الأيام الأولى.
أما إنسانية «الخادمة» مجازا والمربية حقيقة، وكان اسمها يولاندا فهي في الواقع فصل تُذرف له دمعة، فبعد أن شاطرتنا أياما «حياتنا الجديدة» صحونا فجر يوم ما وقد غادرت، تاركة رسالة رقيقة مفادها أنها غادرت الى سفارة بلدها علها تعود الى موطنها، ممطرة البنات الثلاث اللواتي شاركت في تربيتهن بالكثير من القبل والأمنيات، معتذرة عن فعلتها بأنها لا تودّ أن تكون عبئاً وتشاركنا لقمة العيش.
هذا التصرف النبيل بقي ملازماً لنا الى أن استعدناها مجدداً بعد التحرير، وعاشت سنين طويلة مربية وأختاً إلى أن غادرت برغبتها، ولا تزال بناتي يراسلنها من باب الوفاء والعرفان بالجميل.

أهل النخوة والمروءة
لم يكن غريباً على أهلنا من معارفنا الكويتيين أن يتلمسوا حاجتنا منذ الأيام الأولى للغزو. ففي أحد الأيام، تلته أيام، توقفت سيارة أحدهم أمام المنزل واستدعاني قائدها الصديق لنقل حمولتها المؤلفة من كيسي طحين أسمر، وكمية من الأرز والسكر والحليب المجفف، وكثير من أكياس المعكرونة والشعيرية والعدس والبرغل، ومثلها من المعلبات، أذكر أنني نقلتها كلها الى ركن في غرفة النوم التي حولناها الى مخزن، كوننا كنا ننام جميعاً في غرفة، من باب لمة العائلة والترابط، وإن حدث شيء ما نموت معاً.

مخبز الرميثية
لقد كفاني كيسا الطحين مشقة الانتظار أمام مخبز الرميثية لكي نحصل على بضعة أرغفة وبالدور، فقد تعلمت العجن من المرحومة والدتي وهكذا أتينا على كيسي الطحين في فترة قياسية، حيث كنا نمنح من باب التعاون الأهل والأصدقاء حصة من كل يوم خبز، الى أن نفد الكيسان ووجدت نفسي أعود مجبراً الى الوقوف في الطابور أمام مخبز الرميثية.
أحد همومنا اليومية كان البحث عن مواد غذائية في الأسواق «المبتكرة والمستحدثة»، وهكذا كنا نسرّ لحظة الحصول على كيس عدس أو أرز أو برغل... الكيس يعني نصف كيلو أو كيلو، أما البحث عن سيجارة أميركية او أوروبية فكان كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش.

الصديق... «وحيد»
للصديق «وحيد» قصة، فقد كانت زوجتي وزوجته متعارفتين، وأنا تعرفت عليه في رحلة الى اليونان حيث جمعنا بالصدفة فندق واحد، ومنذ ذلك الحين بتنا صديقين.
في إحدى المرات كنت في زيارته مع العائلة، وبعد مغادرتي علمت من زوجته أن دورية عراقية أتت وأخذته الى سجن أبو غريب، ولنبلها تحمّدت الله
أنني لم أكن موجوداً... هل إنسانية وحيد في توزيع الخبز على المحتاج السبب؟

... «أشلع قلبك»
ذهبت يوماً ببناتي الثلاث، وكنوع من تغيير الروتين الى منزل جدتهن في السالمية حيث تقطن، وفي المساء عدت لأحضرهن برفقة زوجتي. وقفت أمام الإشارة الحمراء وكانت هناك طوابير من السيارات تخضع للتفتيش، والبعض يُخرَجون من سياراتهم لمزيد من التدقيق، وكان رجل في الأربعينات تقريباً أعتقد أنه ضابط يتجول بين السيارات والعسكر يحيطون به، ووصل من اعتقدته ضابطاً إلى قرب سيارتي، ولا أدري كيف انزلقت قدمي عن الفرامل وصدمته، ولا أعلم كيف أحاط بي العسكر. نظرت الى زوجتي فإذ بها قد تخشبت، أما أنا فتلوت ما تيسر من القرآن الكريم وقصار السور ودعوت الله أن يفرّج كربتي، وأوصيت زوجتي خيراً بالبنات. أتى الضابط وطلب مني الخروج وهو يقول «مو الحين آخذك أبو غريب وأشلع قلبك» وأحد العسكريين يصوب الرشاش الى صدري ويقول له «قاصدها سيدي» عازماً على قتلي لكن الضابط يردعه.
سألني الضابط عن جنسيتي، ثم ما إن كنت أدخن، وطلب سيجارة، وعندما سحبت العلبة وناولته إياها رفض أخذها، وطلب مني أن أدخن أولاً ففعلت ثم أخذ سيجارة وطلب مني المغادرة. لم أصدق، وعندما وصلت الى منزل حماتي انفجرت في البكاء. لقد ولدت من جديد... كانت أبواب السماء مفتوحة للدعاء.

ملجأنا العائلي
بدأت الحرب الجوية التي كانت بداية الفرج من الكابوس الذي جثم على الصدور. ومع بدئها حوّلنا نحن من بقي من سكان البناية الطابق السفلي الى ملجأ حصّناه بكثير من الفرش والوسائد والأغطية. كان يعطينا دفئاً عائلياً، وعلى ما أذكر فقد كنا ثلاث أو أربع عائلات، سعداء بجمعتنا لحماية أبنائنا وأنفسنا الى أن بدأت الحرب البرية، وكنا قد اعتدنا على سماع أصوات القصف، وكان أملنا بالتحرير يكبر يوماً عن يوم.

رحلوا
صبيحة يوم التحرير، يوم لا ينسى، تسلّلتُ وزوجتي الى سطح العمارة بعد أن سمعنا جلبة أمام المنزل، حيث كانت قوات عراقية ترابط في مدرسة أمام البناية التي نقطن بها، اتخذوا منها ثكنة عسكرية. كانوا يحركون بعض معداتهم وآلياتهم كمن ضُرب على رأسه بغير هدى... أدركنا أن الفجر انبلج.
يوم التحرير، ذلك اليوم الذي قدت فيه سيارتي الى منزل عائلة الصديق وحيد لنطمئن عليه وعلى أخباره، كان ليلاً، فقد حجبت أدخنة آبار النفط المشتعلة أشعة الشمس... كان مشهداً يستعصي على الوصف.

... وهلّت المؤن
وأخيراً بدأت تأتي المؤن من الأصدقاء. ورق عنب معلب ومعلبات أخرى، وأرز وسكر وحليب أطفال، وكم كنا نشتاق الى طعم الدجاج واللحم. أما هدية المرحومة شمس فكانت بضع كيلوات من الحليب المجفف، وعدد من علب السجائر الأميركية التي طال الشوق اليها.

الكويت... الحب الساحر
من السرد الذاتي الى الحقيقة... كلمات لا تختصر سيرة حياة ولا تختزل سبعة أشهر أو 43 سنة، ففي محراب الذاكرة ونقاء الضمير وفيصل الصدق ما هو أهم وأغلى من سرد رواية شاهد وافد...
من الثاني من أغسطس 1990 الى السادس والعشرين من فبراير 1991 حكايات وقصص أبلغ وأفصح على مبدأ «السيف أصدق إنباء من الكتب...». تلك الأيام التي سطرت شجاعة شعب ونبله وعزته وتمسكه بأرضه حتى آخر حبة تراب، والدم الذي سفك على محراب الشهادة في درب الجهاد للتحرير وصيانة الكرامة... يتضاءل المرء أمام تلك البطولات والتضحيات، وهو يرى في صور التعذيب الوحشي الكثير من البطولة والتضحية، ويقرأ في عيون الأمهات والآباء والأبناء رمزية أن تذرف دمعة على ابن اقتيد عنوة وغدراً إلى ما وراء زنزانات السجون. لكنها تبقى ذكرى تستمد معانيها من أيام لن تبرح البال...

الشهداء والأسرى

من دواعي فخري واعتزازي ومحل شرف لي في مسيرة المهنة، أن أكون في طليعة من كتب في تلك الأيام عن قضايا الكويت وما أكثرها، لكن الأبرز كان ما تجلى في مواكب الشهداء والأسرى، والتضحيات التي قدمها اهل الكويت، وتوثيق ما فعله الغزاة من جرائم ضد الإنسانية. لا أكتم سراً إن قلت إنني كنت أكتب عن القضية وكأنني أستعين بمداد الدمع... إنهم قضيتي وأهلي... وفي هذا المقام لا بد من تحية خاصة الى كثير من الزملاء الجنود المجهولين الذين وثقوا بالكلمة والصورة تلك الحقبة.

سرقوا السيارة

في أحد الأيام، طُرِقَ باب شقتنا، فتحته وإذ بثلة من الضباط والجنود العراقيين أمام الباب، سألوني عن سيارة من طراز كان مرغوباً كثيراً لديهم فأفدتهم بأنها سيارتي، ونزلت وأصرت زوجتي على أن تنزل معي، وكنت مرتديا البيجاما، وفتحوا السيارة وادعوا أن هناك سيارة شبيهة قامت بعمل أمني (ليلة البارحة) من ذلك اليوم، وطلبوا مني أن أرتدي ملابسي لمرافقتهم، فعدت إلى الشقة ولم أعرف لماذا تبعتني زوجتي، وبمجرد أن لمحتها أطللت من الشرفة وإذا بالسيارة قد تبخرت.

«الفجر الجديد»

كنت محظوظاً أن أكون من فريق العمل في جريدة «الفجر الجديد» التي انطلقت عقب التحرير، ولا أنسى الاجتماعات التمهيدية التي جمعتني مع باقة من الزملاء في منزل أحد رئيسي التحرير الدكتور ياسين الياسين في منزله، وأيضا مع مدير التحرير الدكتور عبدالله الغزالي.
أما السعادة الكبرى فقد تجلت في اجتماع مع رئيس التحرير المرحوم يوسف العليان في جريدته «كويت تايمز» حيث كانت مقراً لجريدة «الفجر الجديد» وثنائه عليّ، وقد نَقَلَ تنويهاً من ديوان سمو ولي العهد المغفور له الشيخ سعد العبدالله يشيد بحسن الأداء. لحظات لا تنسى.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي