قضية
الفاشينستات... خفافيش العتمة تنشط في غياب الثقافة والمعرفة
لم يعد للجمال مواصفات يمكن الارتكاز عليها، في بحثنا الشاق عن القيمة التي تنفع الحياة، وتدفعها دفعاً إلى البهجة التي مصدرها الروح المتأملة للواقع بكل ألوانه الإنسانية والثقافية والمعرفية والاجتماعية.
الجمال في صيغته الراهنة تخلى تماماً عن مواصفاته الأخلاقية والفكرية والسلوكية وحتى الدينية، ليتحول إلى مجرد مظهر شكلي يأخذ فيه الجسد بوجهه وجميع أعضائه صوراً تبدو في كثير من الأحيان، مكررة ومنتقاة من نماذج نجحت في أن تتصدر المشهد، بوصفها قدوة لكل من يريد أن يقتدي، ورمزاً لنجاحات حققتها هذه الصور لأصحابها من دون بذل في العطاء أو جهد في تحصيل الثقافة أو المعرفة.الجمال الآن... على إيقاع المواقع الاجتماعية، يسير في منحنيات ومفترق طرق وهمية لن تصل بالمجتمعات إلى ما يتطلع إليه من حياة شفافة وراقية، إنه يسير في منعطفات نهمة تلتهم كل ما له علاقة بالإنسانية، ولا تبقي إلا على أشكال ممسوخة، ومظاهر منطفئة، وملامح تتحين الفرصة للشهرة من خلال الادعاء والبهرجة، والتحليق في فضاءات خالية تماماً من المضمون والمعنى.
إنه الجمال - الذي لم تعد تعنيه الثقافة بكل أشكالها المعرفية والفكرية والاجتماعية - أصبح مباحاً فيه الكذب والنفاق والتزييف، والادعاء، واللهاث خلف شهرة غير خاضعة لأي منطق، ولا تحمل في مضامينها أي قيمة يمكن من خلالها أن تكون مؤثرة في تطور وتثقيف المجتمع، إنه الشكل فقط وما بعده فراغ موغل في التهويل والتزييف، ذلك الذي تعتمد عليه النماذج التي أوجدها لنا الإنترنت بمواقعه الاجتماعية، وجعل صورها البراقة التي تتنافس على التسطيح والسفاهة، هي المصدر الرئيس للإلهام، والمنبع الذي يستقي منه الشباب أحلامه.
هكذا انطلقت الفاشينستات في عملهن على إيقاع هذا التزييف، لأن المواصفات المطلوبة لخوض هذا الغمار الموحش في إنسانيته لا تحتاج إلى جهد متراكم، وليس في محتواه أي فكرة أو رؤية تخص الثقافة المعرفية، فقط تتطلب الحكاية مظهراً يختبئ خلف المساحيق ومواد التجميل، وخرقاً للمعقول، والسير ضد التيار الإنساني، والقتل العمد لكل ما يتكون منه الجمال الحقيقي، الذي يعتمد في أساسه على ما ينفع المجتمع من علم وثقافة ومعرفة، وبحث مضن عن ملامح جديدة للواقع، يكون فيه التطور هو المصدر الحقيقي لطرقه.
نعم... انطلقت الفاشينستات في عملهن في عتمة الواقع، بعدما انطفأت شمس المعرفة، وانهزمت الحقيقة أمام جحافل الكذب، وتقاعد الصدق عن أداء دوره، الذي لم يعد مقبولاً لدى الكثيرين، وحينما تغيرت القناعات وسادت الماديات على الطيبة والإخلاص والحب، وبعدما أصبح جمع المال بأي وسيلة، هي الشغل الشاغل لهؤلاء الفاشينستات، بغض النظر عما يحدث من تخريب في المفاهيم، وضياع للقيم، وضحايا كثر، يغريهم المظهر، بسبب حداثة السن، أو قلة الثقافة.
إنهن يعملن في جلبة وصخب، وافتعال الأدوار والأخبار والأحلام، من أجل اصطياد الغافلين والغافلات عن أنفسهن، الذين اعتادت أعينهم على رؤية المظهر في اشكاله المزيفة، واستقرت المفاهيم المغوطة عن الجمال في أذهانهم، وأصبحت - بعد انسحاب الفكر والثقافة عن الساحة - هي الواجهة التي تتصدر المشهد بكل أشكاله وصوره، في ما تراجعت المشاهد الأخرى التي تعتني بالثقافة والفكر، بل انعزلت في أذهان ومشاعر قلة قليلة من الذين لا يزالون يبحثون عن الحياة بوصفها رؤية جمالية تتواصل فيها الأحلام والتطلعات نحو مفاهيم تطور النفس وتهذبها، وتبتعد عنها عن التسطيح والتفاهة.
لا نعلم مدى استمرار هذه الظواهر التي أنشأها الإنترنت بمواقعه المختلفة في حياتنا العملية، هل ستطول أم تقصر، وما مدى تأثيرها المدمر على الأذهان والأفكار والقناعات؟ إنها الأسئلة التي تدور في أذهاننا ولا تجد الإجابة الشافية، التي من خلالها نتعرف بصدق على حقيقة مستقبل الأرض التي نعيش عليها.