اسمي إدلب

تصغير
تكبير

كلّ جريمتي أنني عندما سمعتُ الناس تهْتف للحرية فَتَحْتُ ساحاتي لها. كان مَنْظَرُ الكهولِ يتقدّمون مسيرات الشبان والشابات أشبه بزغاريد الأرض، فهؤلاء برْهنوا أن صبرَهم على الضيم لم يَعْنِ انقطاعَ الحلمِ في قلوبهم، وأن سكينتَهم أمام البطش لم تكن استسلاماً، وأن تَظاهُرَهم أمام أقسى آلةٍ عسكرية يشبه فيضانَ خيرِ أشجارِ الزيتون التي ملأتْ حقولي عن بكرة أبيها.
أنا الخضراء ليس بالزرْع فقط بل بالروح المتجدّدة لساكني هذه الأرض... وحّدتْهم الكلمةُ الساحرةُ وشكّلتْ عَصَبَ تحرُّكهم وأضاءتْ فخرَهم بالانتماء إلى سورية البلد وفي قلْبها «قلب الأقداس» أنا.
كنتُ والأطراف قلباً واحداً. في ليالي السهر. في الأسواق. في المناسبات والمَوالد. في المُصاهَرات. لا تعرف السنّي من العلوي من الشيعي من المسيحي، ومن حُسْنِ حظنا أن النظامَ لم يكن يرْمي الفتن سابقاً في اتجاه التشظّي المذهبي فحسب بل في اتجاه التشظّي الأخلاقي والقِيَمي أكثر، فمَن يرضى بالتجسس لحساب مدير «فرع 271» والإضرار بأهله وأصحابه له الحظْوة مهما تنوّعتْ معتقداتُه... «الوطاوة» كانت عصْبةً جامعةً لكثيرين والأذية عصَبها.


مع انتفاضةِ الحرية صار لونُ «إدلب الثورا» أقوى من لون «إدلب الخضرا»، يخرجُ الجميع الى حيث المقار الرسمية وناقِلاتِ الجند يوزّعون الورودَ والماءَ والطعامَ، ولطالما صوّرتْ الكاميرات جنوداً يشاركون أهاليهم حلقاتِ الدبكة والتصفيق... ثم فجأة بدأتْ الأنوارُ تنطفئ وشاركَ بعضُنا، للأسف، في كبْس الأزرار.
نظامُنا قمعي فاشي فاسِد لن يشهد التاريخُ إجراماً كإجرامه. يقول أحد طيّاريه الأسرى أن المطلوبَ منه كان رمي براميل متفجّرة على طوابير مُنْتَظِري الخبز أمام الفرن ثم الدوران مجدداً لضمان تجمُّع الناس والمُنْقِذين والمُسْعِفين وقصْفهم مجدداً كي تنْطحن عظامُهم مع مَن سَبَقَهُم... وأن مَن كان يخطئ في حصْد أكبر عدد من الضحايا يُعاقَب.
لم يَخْلُ بيتٌ من معتقلٍ في السجون، وإن كُتب لأهله العزاء فيمكنهم الحصول على جثته لدفْنه، أما الكثيرون فيقال لهم انبشوا في تلك الساحات البعيدة حيث رَدَمَتْ الجرافاتُ الكثيرين أحياء وأمواتا.
بعد ذلك، دخلت كحقلِ تدريبٍ ورمايةٍ للأسلحة الروسية الحديثة وكمختبرٍ لعودةِ روسيا الى المياه الدافئة. كان القيصرُ الروسي يجلس على أريكةٍ من جماجم ضحايانا ويستمع من ضباطه الى شرْحٍ عن كفاءة الأسلحة، فإنْ رأى أن صاروخاً فشل في التهامِ العددِ المطلوبِ من الأرواح أَخْرَجَهُ من الخدمةِ وطَلَبَ تجربةَ صواريخ جديدة.
بعد ذلك أوْهمونا أن إدلب تخضع لحمايةٍ دوليةٍ وأن واشنطن وموسكو وتركيا وإيران حررتْ اتفاقاً غير مكتوبٍ يمْنع المسّ بالمنطقة وأهلها. بدا الوهمُ قريباً من التصديقِ خصوصاً مع تَحَوُّل المنطقةِ الى مصفاةٍ يتجمّع فيها الخارِجون من المناطق التي «حرّرتْها» روسيا وإيران وميليشياتها. يأتون بأسلحتهم فتُفتَح للمقاتلين المدارس وتتحوّل الى ثكنات وتُفتَح المنازل للعائلات فتكبر المدينة وريفها بقلوب المتعاطفين... ويستمرّ التهليلُ والتكبيرُ بين «مهاجِرين» وأنصار.
قبل ذلك، لا بدّ من الحديث عن مسؤولياتنا أيضاً. صار شَكْلُ روّادِ المساجد غريباً على أهْل المنطقةِ وعاشتْ خطبُ المساجد غربةً عن الدين الذي عرفْناه. مساجين سوريون بالآلاف خرَجوا من سجون النظام وكأنهم بلباسٍ رسمي موحّد. قبعةٌ ولحيةٌ وعباءة، وزوار بالآلاف خرَجوا من بلادهم إلى إدلب بزيٍّ مماثلٍ وبعضُهم كان طريداً في موْطنه ثم صار أميراً عندنا يمْشي ومعه موكب من 100 شخص ينظرون إليه بشغفٍ قدْسيّ فإنْ رَفَعَ يدَه انخفضتْ الهاماتُ وصدحتْ الألسنُ بالتكبير.
قبل ذلك، صارتْ المؤسساتُ الرديفةُ لدولةٍ ساقطةٍ أكثر سقوطاً منها. قاضي شرع تبدأ صلاحياتُه بتحديد الحلال والحرام وتنتهي بدعوة الناس الى الالتحاق بهذا الفصيل الإسلامي أو ذاك (حسب انتمائه) أو التقاتل أو قطْع رؤوس المُعارِضين وأياديهم.
قبل ذلك، بدأ أطفالٌ يصْدحون أمام الكاميرا بأناشيد تدعو إلى قتْل أبناء المَذاهب الأخرى ومنها قصيدة«بالذبح جيناكم»، وعندما اعتمدَ النظامُ مخطّطَ الفرْز المذهبي الشيْطاني لاقتْه«الجماعاتُ»عندنا بالأداء نفسه.
قبل ذلك، كان ضحايا المنطقة الآمنة يسقطون بسلاح أمراء الشوارع أيضاً وليس بسلاح النظام. وكانت العبواتُ الناسفةُ لغةَ الحوارِ بين الفصائل.
بين«قبل»و«بعد»اتضح كلُّ شيء. كان ظرفا الزمان عملياً ظرفاً واحداً فَتَحَتْه أيادٍ معروفةٌ ونثرتْ ما فيه على عموم الأراضي السورية. الأيادي التي أَطْلَقَتْ صواريخ هي نفسها التي أَطْلَقَتْ مساجين، ومَن فَتَحَ المقابر على المدن والقرى ليُغْرِقَها بآلاف الضحايا فَتَحَ الحدودَ على المدن والقرى ليُغْرِقَها بآلاف الغرباء، ومَن رمى البراميل المتفجّرة مهّد المَشهدَ لولادةِ القنابل البشرية المتفجّرة... حلقةٌ واحدةٌ لا يمكن معها إنكارُ مسؤوليةِ مَن سَكَنَ هذه الأرض عن السماح باستباحة الأرض والعرْض.
اسمي إدلب. أتعرّض اليومَ لأكبر عمليةِ إبادة. العالمُ كلّه قلْبُه على ممرّاتِ النفطِ في الخليج ولا قلب لأحدٍ على أطفالٍ يُسْحَقون تحت الركام.
اسمي إدلب. لم يَبْقَ حجرٌ على حجرٍ في شوارعي التي لم تعد تميّز بين الأحجار والأشلاء.
اسمي إدلب. لم تَرْوِ دماءُ الآلاف عطشَ قيصر روسيا لترسيخ دورِه في المنطقة، ولا جوعَ إيران لكسْبِ محافظةٍ إقليميةٍ جديدة، ولا شغفَ تركيا باستخدامي ورقةً في تثبيتِ موْقعها، ولا حقدَ النظام الأعمى الذي تَوَعَّدَ بتحويلي إلى أرض فضاء قائلاً إن عدد سكان تركيا سيزيد 3 ملايين نسمة وعدد القبور قد يزيد بعشرات الآلاف.
اسمي إدلب، كل جريمتي أنني عندما سمعتُ الناس تهتف للحرية فَتَحْتُ ساحاتي لها. لن أتراجع عن«جريمتي» ولن أغْلقَ هذه الساحات... ولو حَرَقوا أَخْضَرَها ويابِسَها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي