هذا الدوا... وناطرين الفلعة

تصغير
تكبير

القوري الأسود المحموس بسخام الأخشاب التي تشعل النيران تحته عادة واستكانة الشاي المخدر التي سُكِبتْ وشُرِبتْ فوق جسر جابر هي حقيقة التي كانت أكبر دافع حفزني أن أشد الرحال مع الأبناء الصغار ميممين وجه سيارتنا نحو المنطقة الحرة التي استحالت خراباً، ومنها دخلنا إلى مجموعة من الشوارع الصغيرة المتداخلة التي يمكن أن نصور فيها برنامجاً يحمل اسم (المتاهة) نتحدى خلاله الداخل أن يتمكن من الخروج من دون مساعدة من (الكافر) «غوغل» وخرائطه التي بتنا نستعين بها يومياً لاختيار طرقنا وتفادي سيول الاكتظاظات المرورية التي لا تنتهي.
استكانة الشاي تلك التي قامت الدنيا عليها ولم تقعد إلا بعد أنباء التعرف على شاربها ومخالفته، هي التي حرّكت مزاجي لعبور الجسر، ولا أخفيكم كم كنت سعيداً مزهواً فخوراً وأنا أعبره، كما لا أخفيكم كم تمنيت أن أقف طويلاً كما يقف العابرون عليه لالتقاط صور «السيلفي» واللقطات التذكارية والاستمتاع بالنسيم العليل القادم من فوق سطح الماء محملاً برطوبة محببة ورائحة البحر المميزة التي تعيدنا إلى حنين الذكريات. لكن - وآه من لكن - مئات الكاميرات المرتكزة على مئات من أعمدة الإنارة (وترتني) عدا عن الدوريات التي تطارد العابرين متى توقفوا ونسمع من مكبراتها صوت «الداخلية» القديم... «حرّك... حرّك»، فنتذكر ازدحامات الأسواق التي عشنا طفولتنا معها ورافقتنا حتى غزا الشيب رؤوسنا من دون أن يجدوا لها حلاً.
لهذا... آثرت أن أحترم نفسي واخترت التوقف بشكل قانوني في الجزيرة الصناعية التي وضعت قبل نهاية الجسر، التقطنا بعض الصور ثم عاودنا المسير وارتفعت بنا السيارة مع ارتفاع الطريق لأكتشف أننا وصلنا النهاية ودخلنا صحراء قاحلة يتنافس فيها رمل الجتش مع طين الصبخ! التفتنا يمينا وشمالاً! تساءلت: «وين أروح الحين؟»... قرأت لافتة تقول جزيرة بوبيان ولافتة أخرى تقول الجهراء... اخترت بالطبع الاتجاه إلى (الجهرة) وانعطفت عائداً وتاركاً وراء ظهري هكتارات لا منتهية من الرمال والطين من دون أن أفهم إلى أين يمضي بنا هذا الجسر؟... أيعبر بنا نحو المستقبل قريباً؟ أم سيظل لسنوات وسنوات مجرد (بلكونة) فسيحة مناسبة للتريض والاستمتاع!


عندها... لا إرادياً تذكرت سكان مدينة صباح الأحمد الذين مازالوا يعانون مرارات الطريق ومخاطره وإهمال الحكومة لهم لسنوات متتالية حتى هداها الله وشرعت في إنجاز طرق جديدة لهم لم تنته بعد. وقلت بيني وبين نفسي سبحان الله... بنوا مدينة كاملة لاستيعاب أكثر من مئة ألف نسمة ولم يكلفوا أنفسهم عناء وضع الطرق لهم قبل أو حتى تلازماً مع بناء المدينة، لكنهم هنا (أقصد جسر جابر) بنوا الطريق الذي يعتبر رابع أطول جسر بحري في العالم بكلفة تناهز 800 مليون دينار ليقودك في النهاية إلى (اللا-شيء)!.
ليس تحلطماً والله... أقسم وأنا في أول أيام شهر رمضان المبارك أعاده الله عليكم وعلينا بالخير والبركات أنه ليس تحلطماً... ولكنه تساؤل يبحث عن إجابة... لماذا استراتيجيتنا في العمل متناقضة، فتجدنا أحياناً نبحث عن (الدوا) بعد (الفلعة)، وفي أحايين أخرى (نزهب الدوا قبل الفلعة) كما فعلنا في جسر جابر حيث جهزنا الطريق وبنينا الجسر وها نحن قاعدون ننتظر.
وإلى أن يكتب الله وتأتي الفلعة التي زهبنا الجسر من أجلها، خلوا الناس يستانسون ويصفطون على كتف الطريق ويصورون... فالجسر رغم عظمته التي لا أنكرها وجماله الذي يغسل الأبصار... هو حتى الآن مجرد موقع سياحي ترفيهي إلى أن تأتي (الفلعة) عجل الله قدومها اللهم آمين.
وعساكم من عواده.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي