قارَب بحذَرٍ احتمالاتِ الحرب فـ «لا شيء غير عادي على الحدود»
مسؤول أمني لبناني رفيع المستوى لـ «الراي»: أَمْنُنا مَمْسوكٌ مئة في المئة وأكثر
- 70 في المئة من الحدود مع سورية بيد جيْشنا وعازمون على قفْل معابر التهريب
تروي الحكاياتُ أن «بلاد الأرز» غالباً ما تَمَرَّدَتْ على رمادها لتنهضَ من جديد، لكن «طائر الفينيق»، الذي لم يَصْرَعْه لا الحريق ولا الغريق في غابر الزمان، ملّ الأسطورةَ ولم يعد على ما يرام بعدما غزاه التعب وغَلَبَهُ الإعياء ونال منه اليأسُ وهو يراقبُ أحوالَ الجمهوريةِ الضائعةِ في دهاليز الحسابات السياسية والمَشاريع الإقليمية، وأحوالَ جمهورِها البائسِ المُصابِ بفائضٍ من العصْبوية حتى الهذيان.
لم يعُد الكلامُ، وبـ «مكبراتِ الصوت» عن شَبَح انهيارٍ مالي على قاب قوسيْن مجرّد فزاعة أو أمراً غير مستبعَد... صار أشبه بـ «خبْريّةٍ يوميةٍ» في الشارعِ وعلى الشاشات وكأن البلادَ على موعدٍ مع حادثةٍ عابرةٍ وتمرّ، وسط بروباغندا تخْلط «الحابلَ بالنابل» لتجهيل الفاعلين الذين نَحَروا الدولةَ بتهشيمِ مؤسساتها وتهميشِ اقتصادها وتهشيلِ شبابها... وها هي الآن تلْحس المبردَ وربما تُضطر لتَجَرُّع إجراءاتٍ كالسمّ.
وكـ «مرورِ الكرامِ» يمرّ الكلامُ عما هو أَمَرّ حين يديرُ الجميعُ الظَهْرَ لسيناريواتٍ عن احتمالِ تحويل لبنان ساحةً لحربٍ مدمّرةٍ بفعلِ «صراعِ الفِيَلة» في المنطقةِ الأقرب ما تكون إلى «طنجرةِ ضغطٍ» على وقع المواجهة الأميركية - الإيرانية المتعدّدة الجبهات والأدوات الآخذة بتَصاعُدٍ أعاد الخيارَ العسكري إلى الطاولة وكأن الحربَ المؤجَّلةَ تنتظر اللحظةَ الملائمة.
ففي بيروت هذه الأيام «عجائب غرائب»، من الطقس الذي جَعَلَ الربيعَ يزهر ثلجاً يطْرقُ أبوابَ البحر للسباحة، إلى رجالٍ خَدَموا عسكريّتهم فحوّلتْهم الأزمةُ من حرّاسٍ للقانون إلى قاطعين للطرق، ومن انفجارِ لغمِ الفسادِ بعلاقة «الودّ المفقود» بين القضاء والأمن، إلى دولةٍ كأنها في صحوةٍ مفاجئةٍ تعلن الحربَ على الهدر وتُقَرِّر التقشفَ وتلوّح بإجراءاتٍ اضطراريةٍ لم تَرُقْ للشارع الذي لوّحَ هو الآخَر بـ «ستراتٍ صفر» أو بألوان أخرى تُشْبِهُ الوجعَ الطالعَ من الوجوه المُتْعَبَة.
كان مجلس الدفاع الأعلى أنهى اجتماعه الطارئ للتوّ حين التقينا بمسؤولٍ أمني رفيع المستوى في مكتبه بعدما شارك، بحُكْم موقعِه، في الاجتماع الذي عُقد على «مرمى العين» في القصر الجمهوري لمناقشةِ «قضايا حساسة» من النوع الذي يسْتدعي عادةً التئامَ المجلس الأشْبه بـ«حكومةٍ مصغّرة» والذي تبقى قراراتُه كما مداولاتُه سرية للغاية، أقلّه هكذا تقتضي الأصولُ في دولةِ المؤسسات.
لم يَغْلب الفضولُ المهني «اللياقةَ البروتوكوليةَ»، فلم نسأل عما هو سرّي في الاجتماع، ربما لاقتناعنا بأننا سنقرأها في اليوم التالي، فالسوابقُ تشي بأن «لا أسرار» في الوطنِ الصغير الذي شَلَّعَتْ أبوابَه صراعاتٌ من رأسه حتى أخمص قدميْه وصارتْ كلُّ شاردةٍ وواردةٍ فيه منشورةً على «صنوبر بيروت»... الصنوبراتُ التي أصبح اسمُها الآن وسائل التواصل الاجتماعي.
جلّ ما فهمْناه ولِماماً من المسؤول الأمني الرفيع أن المناقشات تركّزتْ على عرْضٍ للواقع الأمني في البلاد والعلاقة غير السوية بين القضاء والأمن، والاتجاه إلى مزيدٍ من السعي لضبطِ المعابر البرية على الحدود مع سورية للحدّ من عمليات التهريب... وهي عناوين حاضرة في يوميات اللبنانيين ومحور اهتمامِ الداخل، وربما الخارج أيضاً.
ورغم اللوحة الداكنة لما هي عليه الحال، فإن المسؤولَ الأمني أبلغ إلينا، وبثقةِ العارف «أن الوضعَ الأمني ممتاز ومَمْسوكٌ مئة في المئة وأكثر»، شارِحاً كيف نجح لبنان بفضل جيشه وقواه الأمنية في كسْب المعركة وبجدارةٍ ضدّ الإرهاب «يوم أَلْحَقْنا الهزيمةَ بداعش في معركةِ ( فجر الجرود) وتمكنا من كشْف الخلايا النائمة للتنظيمات الإرهابية في عملياتٍ استباقيةٍ احترافيةٍ والقضاء على أَوْكارِها».
ليس من عادةِ الأجهزة المولجة الأمن النوم على حريرٍ، فرغم تَراجُع خطر الإرهاب وتَضاؤله إلى أقصى الحدود، فإن المسؤولَ الأمني الرفيع يُطَمْئن إلى «أننا في جهوزيةٍ دائمة لمنْع تَسَلُّلِ أي عناصر من التنظيمات المتشدّدة عبر الحدود، وعيونُنا مفتوحةٌ على مدار الساعة، وممنوعٌ الاسترخاء ما دامت الأوضاع في سورية على ما هي، وضماناً لأمننا وحماية الاستقرار الذي يضاهي ما تنعم به الدول الأكثر رخاءً في العالم».
الاطمئنانُ إلى مَتانة الوضع الأمني وصلابته حيال أي اختراقٍ افتراضي من الإرهاب، يصبح أقلّ طمأنينة في مقاربةِ أي توتّراتٍ اجتماعية قد تنجم عن الأزمة الاقتصادية - المالية، أو أي ارتداداتٍ للصراع الكبير في المنطقة المترنّحة فوق صفيحٍ ساخن، كاحتمال نشوبِ حربٍ بين إسرائيل و «حزب الله»، قد تكون أكثر قسوةً من تلك التي حدثت في يوليو 2006.
في تقويمِ المسؤول الأمني لمَظاهر النقمة الاجتماعية في الشارع وتحدّياتها «ان القوى الأمنية قادرةٌ على احتواء الاحتجاجات الموْضعية، التي غالباً ما تكون معروفة المكان والحجم، وقادرة أيضاً على التعامل مع أي تحركاتٍ ما دامتْ في إطارٍ سلمي. لكن تَطَوُّر الضغط الاجتماعي، ربْطاً بالأزمة الحالية، سيشكل عبئاً إضافياً على القوى الأمنية التي ستكون مُطالَبَةً بجهدٍ مُضاعَف، في الوقت الذي تزجّ بإمكاناتها وعديدها في مهماتٍ عدة في الداخل وعلى الحدود».
لم يشأ المسؤول، الذي يحتلّ موقعاً بالغ الحساسية، مناقشةَ مسائل يتم التداول بها الآن وتخص المؤسسة العسكرية في إطار ما يُطرح عن خطة تقشّف للحكومة، كبعض الحوافز والتدبير الرقم 3، لكنه لفت إلى «الاستقرار الأمني كإنجازٍ ثمينٍ يعكس أهميةَ الاستثمار في الأمن الذي يشكّل بيئةً ملائمة لحياةٍ سياسية - اقتصادية آمنة ومستقرة»، لافتاً إلى الجهود في تَحَمُّل أعباء النزوح السوري واستمرار اليقظة على الحدود.
وتُولي المؤسسةُ العسكرية والأجهزةُ الأخرى المعنية أهميةً ما فوق عادية لعمليةِ ضبْط الحدود الشمالية والشرقية مع سورية، ومن المرجّح مضاعفة جهودها بعد توصيةٍ في هذا الشأن صدرتْ عن مجلس الدفاع الأعلى قضتْ بالتشدّد في قفْل المعابر غير الشرعية ومنْع عمليات تهريب الأشخاص والبضائع، وسط تقارير إعلامية تحدّثت عن اهتمامٍ دولي بمنْع أي محاولاتِ التفافٍ على العقوبات على إيران و «حزب الله».
وبمعزل عما أثير أخيراً، فإن لبنان كان أعدّ أربعة أفواج من الجيش لضبْط الحدود والانتشار عليها، وباشر في الـ 2014 ببناء 12 برج مراقبة على الحدود الشمالية والشرقية مع سورية بمساعدة دول عدة في مقدّمها بريطانيا. وكشف المسؤول الأمني الرفيع لـ «الراي» عن أن «70 في المئة من الحدود مع سورية هي بيد الجيش وتحت السيطرة، ونعمل على استكمالِ نقاط المراقبة التي تحتاج إلى مزيدٍ من القدرة البشرية واللوجستية لضبط الـ 30 في المئة من المسافة التي ما زالت خارج السيطرة تماماً».
ولم يكن مضى ساعات على كلام المسؤول الأمني حتى ذكرت التقارير ان الجيش، وفي خطوةٍ ذات دلالة أقفل معبر جرماشي غير الشرعي على الحدود مع سورية في محاذاة منطقة الهرمل، في إطار قرارٍ حاسم بالتشدد في مصادرة البضائع المهرَّبة والقبض على المُهَرِّبين وترحيلهم فوراً وإعادة الأشخاص الذين يدخلون خلسةً إلى حيث أتوا من دون زجّهم في السجون التي تعاني تخمةً، وسط معلوماتٍ عن أن التهريب عبر المعابر غير الشرعية لم يعد يقتصر على عملياتٍ من سورية إلى لبنان، بل رُصدت أخيراً عملياتٌ من لبنان إلى سورية التي تعاني أزمةً متزايدة ولا سيما في مجال المحروقات.
وبكثيرٍ من الصراحة والوضوح يتحدّث المسؤول الأمني، الذي لا يُشْبِهُ الصورةَ النَمَطية لـ «الرجل الأمني» التي تَكَرَّسَتْ إبان الوصاية السورية على لبنان، عن أنه «ليس بالأمن وحده يمكن منْع عمليات التهريب، فثمة قراراتٌ إدارية يمكن أن تساعد، وخصوصاً أن الأجهزة المعنية تعاني نقصاً في الطاقة البشرية كالجمارك والمديرية العامة للأمن العام، إذ هل يعقل أن تقتصرَ قدرةُ الجمارك على تأمين مفتّشيْن لا غير في مرفأ طرابلس»، مذكّراً بأن «الأمن والقضاء ضمانةُ أي مجتمعٍ لمواجهة التحديات مهما بلغتْ».
واحد من التحديات التي لا يستهان بها تهبّ على لبنان من المنطقة التي تبدو وكأنها فوق «فوهة» بركان يصعب التكهن بمآله، وسط خشيةٍ دائمةٍ من أن تكون البلاد ساحةً لـ «تصفية الحسابات» في أيّ مواجهةٍ محتملة... وبدا المسؤول الأمني حذِراً في رسْم الاحتمالات على هذا المستوى... لا استعدادات غير عادية على المقْلب الآخر من الحدود الجنوبية (أي في إسرائيل)، ووتيرةُ المناورات هناك معهودة، وما من شيء غير مألوف في جهوزية «حزب الله».
وفي رأيه «أن إسرائيل تُحاذِر القيام بأي مغامرةٍ عسكرية بعدما أَدْرَكَتْ في ضوء ما جرى في حرب الـ 2006، ان عدوانها لن يكون نزهةً على الإطلاق»، مرجّحاً أن تكون الطبيعةُ المدمّرة لأيّ حربٍ مقبلة عاملاً مؤثّراً في لجْمها، فلبنان لن يجد مَن يسانده في إعادة إعمار ما قد تدمّره الحرب، على عكس ما جرى بعد حرب الـ 2006.