مقابلة / الرئيس السابق للجمهورية أكد «التحييدُ بوابة خلاصِ لبنان»
سليمان لـ «الراي»: عون مطالَبٌ باستراتيجيةٍ تضع سلاحَ حليفِه «حزب الله» بإمرة الجيش
- الهدف من الثلث المعطّل المحاصصة وتحصيل المكاسب في الدولة
- من الخطأ ربْط قوّة الرئيس بكتلته النيابية فهذا يجعله كالفيل لحظة دخوله محل «كريستال»
- أربأ برئيس الجمهورية ما يشاع عن أنه يريد الثلث المعطّل
- عادةً تبدأ المعركة الرئاسية في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الولاية فهل يُعقل أن تكون هذه المرة بدأتْ في الأشهر الثلاثة الأولى؟
- ليس بالعضلات ولا السلاح ولا بالانتماء لمحور الممانعة أو سواه نَعْبر بالدولة إلى ملاذ آمن
- هزالةُ مستوى التمثيل في القمة التنموية قلّة ثقة بالحُكم
- عُرض عليّ في الاليزيه التفاوض مع إسرائيل فرفضتُ وقلتُ... أبداً
- الكلامُ عن إزالة إسرائيل عن الخريطة وَصْفَةٌ لحربٍ كونية ولا يمكن توريط لبنان بتبعاته
رغم هشاشةِ الديموقراطية اللبنانية والمحاولاتِ المُمَنْهَجَةِ لتهشيمها، ما زال في الإمكان، كما كان، ركوب السيارة في بيروت والتوجّه لزيارة رئيسٍ سابقٍ للجمهورية يتقاعد في منزله، لا في سجنه مخلوعاً بالدبابة أو الشارع، حياً يُرزق لا في مثواه الأخير بعد انتقاله من القصر الى القبر مُصارِعاً في الكرسي حتى يصْرعه العمر.
تُعانِدُ ديموقراطية لبنان، على عوراتها، عملياتٍ هائلة لتدميرها بالتعطيلِ المتمادي لـ«تداول السلطة» وعن سابقٍ إصرار وتصميم، بالقتْل حيناً والفراغ أحياناً... الانتخاباتُ الرئاسية عُلِّقت مرّتيْن، في الثانية لـ30 شهراً، وتشكيلُ الحكومات صار يحتاج لأشهر مديدة، وكأن ثمة مَن يريد تحطيم النظام.
«الراي» زارت ميشال سليمان في بيته في منطقة اليرزة، المطلّة على بيروت، بين مقرّ قيادة الجيش الذي قاده لتسعة أعوام والقصر الجمهوري الذي سَكَنَه لستة أعوام. ورئاسته بين مايو 2008 ومايو 2014 قد تكون مثالاً حياً عما هو عليه لبنان من «صراعِ بقاء». تَسَلَّمَ الكرسي من «الفراغ» وسلّمه إلى... فراغ.
كثيرةٌ هي المفارقاتُ التي ميّزتْ العهد الرئاسي لميشال سليمان، الذي «انتخبَه» العالم في الدوحة وتَوَّجَهُ البرلمان في بيروت، وشهِد أول انقلابٍ دستوري على حكومةٍ حين أطيح بسعد الحريري (يناير 2011) لحظة دخوله البيت الأبيض، وحَطَّم تشكيلُ آخر الحكوماتِ في ولايته الرقم القياسي (أكثر من عشرة أشهر) قبل ان يحلّ «الفراغ الرئاسي» لسنتين ونصف السنة.
ورغم أن سليمان يفاخر بأنه أنجز نصاً مرجعياً خلال ولايته يعرف بـ«إعلان بعبدا» الذي يوصي بتحييد لبنان وأصبح مرتكزاً للشرعيتيْن العربية والدولية، فإنه يراقب من موقعه كرئيسٍ سابق، حاضر في الحياة السياسية، أحوال الجمهورية وأهوالها، وهي تقيم بنظامها وتوازناتها ومؤسساتها واقتصادها في... عيْن العاصفة.
هذه الأحوال البائسة التي يشكّل رأسَ جبلِ أهوالها العجزُ المتمادي عن تشكيل حكومةٍ جديدة منذ أكثر من 8 أشهر، كانت أخيراً على الطاولة في اجتماعٍ ماروني دعت إليه الكنيسة في بكركي، وقال فيه البطريرك مار بشاره بطرس الراعي كلاماً بالغ الخطورة عندما تحدّث عن محاولاتٍ لتغيير النظام والانتقال من المناصفة إلى المثالثة.
رغم أن الرئيس سليمان لا يحبّذ لقاءاتٍ ذات طابع مذهبي في السياسة إلا أنه يقدّر دور بكركي وما يصدر عنها كالنداء الشهير لمجلس المطارنة في العام 2000 (الدعوة لانسحاب الجيش السوري من لبنان). أما كلام البطريرك الراعي «فكان صادقاً وجريئاً ولم يَرْقَ إليه البيانُ الذي صدر عن المجتمعين الذين لكلٍّ منهم موقفه».
ولأن الرئيس «الماروني»، الذي قرّر الخروج من القصر وهو يُعْلي الدستور على أحلام التمديد التي راودتْ سواه، يعرف «الداء» تمنّى لو أن المجتمعين في بكركي تبنّوا الدواء «وأقْسموا على عدم التمديد لأنفسهم ولأيّ سلطةٍ وعدم تعطيل نصاب انتخاب رئيس الجمهورية وإقرار إستراتيجيةٍ وطنية للدفاع بإمرة الجيش والإصرار على تحييد لبنان أو أقلّه النأي بالنفس».
ويتوقّف عند جانب «مهمّ جداً» تحدّث عنه البطريرك وهو حياد لبنان كضمانةٍ للمستقبل «لكن المجْتمعين لم يناقشوه»، لافتاً إلى أنه كان مدْرِكاً للهواجس التي عبّرتْ عنها بكركي يوم دعا خلال ولايته لجلستيْ حوارٍ في القصر الرئاسي، كاشفاً عن توصيةٍ أدرجتْها محاضر الحوار قبل أيام من مغادرته سدة الرئاسة.
... «التأكيد على أهمية تطبيق اتفاق الطائف والحرص على المحافظة على المناصفة (الإسلامية - المسيحية) والعيش المشترك». وروى كيف أن رئيس البرلمان نبيه بري كان سبّاقاً في صوغ هذه التوصية عندما قال لنا «أنا نبيه بري أسمح لنفسي بالتحدّث باسم المسلمين وأقول إننا لن نتجاوز المناصفة حتى ولو أنشأنا مجلس الشيوخ».
وفي اعتقاد هذا الرجل الذي خبِر السلطة «ان المشكلة القائمة لا ترتبط بهاجس الانقلاب على المناصفة بقدر ما هي على صلةٍ بصراع صلاحيات، وقد وضعتُ مشروعاً لمعالجة الثغر، اذ لا يمكن لدستور أن يعطّل انتخاب رئيس للجمهورية كما يحلو للذين يعتبرون أن التعطيل حقٌّ ديموقراطي، فالانتخابات واجبٌ دستوري لا مناص منه».
ويرى سليمان أن تطبيق الطائف يمرّ حتماً بتحييد لبنان «لأنه من شأن ذلك طمأنة الجميع بأن البلاد لن تذهب إلى هذا المحور أو ذاك مهما كانت هوية الأغلبيات البرلمانية، على أن يصار إلى وضع إستراتيجية وطنية للدفاع تُمْسِك بالسلاح لفترة انتقالية، وإنشاء مجلس شيوخ وإقرار اللامركزية الإدارية، فهذه هي خريطة الطريق لتبديد الهواجس».
... «وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا» بهذا البيت للمتنبي يجيب الرئيس سليمان عن سرّ العراك بين شريكيْ «الثلث المعطل» في حكوماتٍ سابقة، أي «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» على مَن يُمْسِك به في الحكومة الموعودة، وهو يقول «إن الهدف من الثلث المعطل المحاصصة وتحصيل المكاسب في الدولة».
وفي تقديره إنه لا يمكن لا بالثلث المعطل أو سواه فرْض إرادة هذا الطرف أو ذاك في المسائل الجوهرية و«جلّ ما يمكن تحقيقه من ذلك هو الشلل. هم حاولوا انتزاعه أيام تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام (في آخر ولاية سليمان) انطلاقاً من النية لتعطيل الانتخابات الرئاسية، لكنني أنا وسلام هدّدنا بإعلان حكومة أمر واقع، فتراجعوا وقبلوا بحكومة 8-8-8».
وبدا سليمان مستغرباً وناقماً حيال الحديث عن إصرار رئيس الجمهورية على الإمساك بالثلث المعطل «من غير المسموح أن يقال ذلك، ففي إمكان الرئيس ومن خلال صلاحياته تعطيل أي أمور يعتبرها سلبية، فهو مؤتمن على الدستور وعلى التعاون بين السلطات لا على تعطيلها، لذا أربأ بالرئاسة ان تكون في وارد ما يحكى في هذا الشأن».
واستغرب الرئيس السابق للجمهورية ما يشاع عن الإصرار على إمساك فريق الرئيس الحالي العماد ميشال عون بالثلث المعطل ربْطاً بالمعركة على رئاسة الجمهورية، وسأل: «عادةً تبدأ المعركة الرئاسية في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الولاية، فهل يُعقل أن تكون هذه المرة بدأتْ في الأشهر الثلاثة الأولى من ولاية العماد عون؟» قبل أن يجيب «ربما هناك مَن يفكرون بهذه الطريقة».
لم يستبعد سليمان «أن تكون الشروط الموضوعة على طاولة تشكيل الحكومة وسيلةَ ضغطٍ لخيارٍ معيّن في الرئاسة، ليس بالضرورة أن يكون الوزير جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر) لكن الضغط على قاعدة الخيار السياسي للرئيس، أو في حال حصول شغور رئاسي على ما درجت العادة، أن يكون ثمة قدرةً على التأثير داخل الحكومة».
لا يقرّ سليمان بنظرية الرئيس القوي على النحو الذي يصار إلى تظهيره في الحياة السياسية اللبنانية «الرئيس القوي هو الذي يصون الدستور والعيش المشترك والحريص على التوازن بين السلطات وتعاونها، ومن الخطأ ربْط قوته بكتلته النيابية التي ربما تكون عبئاً عليه وتجعله كالفيل لحظة دخوله إلى محل كريستال».
وإذ يحاذر تحميل رئيس الجمهورية عبء كل شيء «لأنني أعرف كيف تسير الأمور»، دعا سليمان الجميع إلى التواضع «لا بالقوة ولا بالعضلات ولا بالسلاح ولا بالانتماء إلى محور الممانعة أو سواه يمكن أن نَعْبر بالدولة إلى ملاذ آمن، فلنُعلي التحييد كبوابةٍ لخلاصِ لبنان وحمايته وطمأنة مجموعاته الطائفية والسياسية وتصليب صموده الاقتصادي والمالي».
ومَن يتحمل مسؤولية هزالة التمثيل في القمة العربية التنموية - الاقتصادية التي عُقدت في بيروت؟ سألنا الرئيس سليمان الذي رأى أن «السبب يعود إلى فشل سياستنا الخارجية وإلى ما هي عليه الثقة بالحُكم والممارسات السياسية التي انتهجها»، معتبراً «انه لو تم الالتزام بإعلان بعبدا لَوفّرنا على لبنان كل هذه التجارب المؤذية في العلاقات الخارجية».
وبشيء من المرارة قال: «الدولة تتبنى ما اتفقنا عليه في إعلان بعبدا من تحييدٍ قبل أن نعود ونتنكّر له ونذهب إلى مسكّنات من نوع النأي بالنفس... نكذب على أنفسنا ونظنّ أننا نخدع العالم. ومن نتائج هذا الخداع فشل القمة العربية التنموية التي كانت أقرب إلى اجتماعٍ منه إلى قمة. إنه فشل موصوف للسياسة الخارجية».
... سورية ما زالت «ملعبَ نارٍ» ومؤتمر وارسو يشي بتعاظُم المواجهة الأميركية - الايرانية، واسرائيل راكمتْ اتهامات لـ «حزب الله»، فهل ثمة خشية من حرب تطول لبنان؟ يجيب سليمان «نحن في لبنان مع حلّ الدولتين والمبادرة العربية للسلام، وتالياً علينا أن نتمسك بهذا الموقف وألا نحيد عنه مهما بلغت التجاذبات في المنطقة».
ويعتقد الرئيس اللبناني السابق «أن أسوأ ما يحصل هو الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية ولأجوائنا، لكن الأسوأ من ذلك هو اننا نفتح لها المجال لتبرهن عن قوتها ولحشد الدعم الأميركي لها. لا نريد الاستهانة بما تفعله المقاومة على الأرض اللبنانية، إنما السؤال لماذا في لبنان دون سواه؟ ألا يكفينا هذا المنحى في استجرار الاعتداءات الإسرائيلية؟».
وتوقّف سليمان عند الكلام عن إزالة إسرائيل من الوجود «مواقف من هذا النوع تنذر بحربٍ كونية. ثمة فارق بين القول إن إسرائيل عدوّتنا وبين الادعاء بأننا نريد إزالتها عن الخريطة، فلماذا عليّ تَحَمُّل تبعات مثل هذا الكلام في لبنان، وهو كلام لا يستقيم مع معالجة قضايا المنطقة وحلّها؟ وهذا ليس دعوةً الى الاستسلام لإسرائيل والتهاون معها. لقد عُرض عليّ وفي الاليزيه التفاوض معها ورفضتُ وقلت أبداً، لا نفاوض قبل ان تعيد الحق لأصحابه، ونحن آخر مَن نتفاوض معها».
وفي رأي سليمان أنه «لا يعقل أن تمرّ ولاية الرئيس ميشال عون من دون إقرار إستراتيجية دفاعية، فهذا العهد هو الأقوى وهو حليف (حزب الله) مما يجعله قادراً على إنجاز هذا الملف خلال السنوات الثلاث الباقية من الولاية. إستراتيجيةٌ تجعل رئيس الجمهورية هو مَن يقرر تحريك سلاح (حزب الله) في حالاتٍ ما و لوقتٍ ما وبإمرة الجيش لمدة سنتين، ثم يصار الى التخلص من السلاح إما بإعطائه إلى الدولة أو إرجاعه الى ايران أو بيعه، بحسب ما يشاؤون».
وفي تقديره «ان هذا الأمر متاح ومن دون أي مشكلة مع (حزب الله)، فعلاقة التحالف بين الرئيس عون و(حزب الله) من شأنها تسهيل التوصل الى هذه الإستراتيجية، إضافة إلى تفاهماتٍ أخرى جرتْ بحضور الرئيس والحزب كالاتفاق على إعلان بعبدا الذي قرأه الرئيس بري على مَسامع الجميع أكثر من مرة فوافقوا عليه قبل أن يعود الحزب ويتنكّر له».