مثقفون بلا حدود
شهاب غانم... مترجم من الإمارات (1 من 2)
يراقص الكلمات حينما يترجم، تهتز أوتاره فتشدو قريحته الشعرية لتعانق النص المترجم، تنبض أنفاسه وترهف إحساساته وتجيش عواطفه في ثنايا نصوص ترجمته، هو الدكتور شهاب غانم، من دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، والحديث عن الإمارات ذو شجون، فالإمارات دخلت كل البلاد العربية بقلبها الكبير، وأينما ذهبت في البلدان العربية ستجد إما شارعاً أو مدينة باسم الإمارات، حبا بهذا الشعب الكريم الذي تقاسم اللقمة مع أشقائه.
الإماراتي الذي يأسرك بطيبته، ودماثة أخلاقه، وتواضعه وبساطته وكرمه وعطائه دونما مقابل، هذا الشعب الذي يحمل من السجايا العظيمة ومن الود الفطري للآخرين.
في كتابه الموسوم بـ «إذا وقصائد أخرى» يقول:«منذ ذلك الحين اقتنعت بأن ترجمة الشعر ممكنة في بعض الأحيان، خصوصا إذا كان المترجم شاعرا يتقن اللغتين المنقولة منها وإليها، ومطلعا على ثقافتين ومتفاعلا مع النص الذي يترجمه» أ.هـ.
وأنا مؤمن تماما بما وضعه الدكتور شهاب، من ضوابط ومعايير لترجمة الشعر ولعلي استحضر مقولة لإحدى الباحثات حينما قالت: «لا يستوي المترجم والمؤلف من الناحية العلمية والمعرفية»، وأرى أن من يترجم الشعر لا بد له أن يكون شاعرا وأديبا ناقدا وعروضيا، وهذا يندرج على العلوم قاطبة؛ فمن أراد أن يترجم للطب ينبغي عليه أن يكون طبيباً، ومن أراد أن يترجم للهندسة يجب عليه أن يكون مهندساً وهكذا، فليس كل من تعلم لغة أجنبية جاز لنفسه أن يترجم، هناك تعلم للغة وهناك اشتغال باللغة والفرق بينهما كبير جدا. والدكتور الإماراتي شهاب غانم كان واضحا وصادقا مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع الآخرين، فتحدث بشفافية الشاعر المطبوع، وعفوية الأديب الأريب، والناقد الملهم، اختصر المسافة على النقاد الملمين باللغة الإنجليزية حيث قال: «ترجمة الشعر الموزون يمكن أن تكون إلى شعر موزون أو ترجمة نثرية تقدم المعاني والصور في النص الأصلي دون الموسيقى التي حملها الوزن» أ.هـ.
ونراه ينطلق من أول قصيدة بعنوان «عندما كنت في الصبا ذات حسن - الملكة اليزابيث الأولى 1533 - 1563»
When I was fair and yong. And favor graced me Of many was I sought, their mistress for to be.
But I did scorn them all, and answered them there – for
Go.go.go seek some otherwhere
I mportune me no more
الترجمة للعربية «عندما كنت في الصبا ذات حسن... وحفيا كان الزمان بشأني... كم أتتني الرجال تخطب ودّي... إنما الازدراء قد كان ردّي... اذهبوا... اذهبوا لغيري بعيدا... ودعوني وحدي... دعوا التنكيدا»أ.هـ
نلاحظ التقديم والتأخير في عبارة المترجم «وحفيا كان الزمان»، وهو من علم المعاني في البلاغة، ولعل المترجم هنا أجاز تقديم خبر كان عليها إذ من المتعارف عليه إجازة تقديم خبر كان على اسمها (وكان الزمان حفيا) تصبح (وكان حفيا الزمان)، لعدة أغراض بلاغية منها لأهمية الخبر، ومنها للتشويق إلى معرفة الاسم مثلما فعل الفرزدق حينما قال: «ندمت ندامة الكسعي لما... غدت مني مطلقة نوارُ» فأخر اسم ( غدا ) لتشويق السامع وجذبه لمعرفة من هي المطلقة من زوجات الفرزدق. كما أن غانم، لم يترجم (many) بالكثير، ولكنه آثر أن يستخدم لها (الرجال)، فهذا التصرف في الترجمة يحتاج إلى دراية بالبيئة اللغوية، فوقع «الرجال» عند العرب لها دلالة الشجاعة والشهامة والفحولة، والشاعرة لم تخطئ حينما استخدمت (many) بدلا من (men)، فهي كملكة فضلت أن تقول إن كثيرا من السادة النبلاء من الطبقة الأرستقراطية وليس بالضرورة أن تكون لديهم شجاعة أو شهامة أو فحولة، وإنما ولدوا في طبقة برجوازية وأطلق عليهم النبلاء لسلالة الأسرة، وقد تجد الشجاعة أو الشهامة أو الفحولة عند صعاليك الرجال.
«إنما الازدراء»... إنما: هي أداة حصر في علم المعاني بالبلاغة، كذلك استخدم المترجم فعل الأمر وهو من الأساليب الإنشائية في علم المعاني، وفي هذه العبارة «ودعوني وحدي... دعوا التنكيدا»، أسلوب إنشائي أمر الغرض منه التمني بأن يتركوها وشأنها، وقد يكون الغرض من هذا الأمر اليأس أيضا.
نلاحظ هذه الترجمة قد حافظت على موسيقاها الشعرية، فإن دل على شيء فإنما يدل على الحس المرهف لدى المترجم، وتألق شاعريته، ورصانة لغته في انتقاء الألفاظ المناسبة كما مر بنا في ترجمة (الرجال)، والمترجم الإماراتي الدكتور شهاب غانم أبدع أيما إبداع حينما حافظ على هذه الصورة البيانية «وحفيا كان الزمان بشأني» فصور الزمان كأنه جمهور من الناس تحتفي بهذه الصبية اللطيفة الرقيقة ذات الحسن والجمال، وذلك من قبيل الاستعارة، ولولا تمكن المترجم من اللغة لما استخدم كلمة (ودّي) ترجمة لـ (mistress).
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com