مثقفون بلا حدود
الفن القصصي في شعر أبي نواس (2 من 2)
... تابع قصيدة «عند حنون» أنشد أبو نواس:
فقلت لها كيلا حسابا مقوما
دواريق خمر ما نقصنا ولا زدنا
فجاءت بها كالشمس يحكي شعاعها
شعاع الثريا في زجاج لها حسنا
فقلت لها ما الاسم والسعر بيني
لنا سعرها كيما نزورك ما عشنا
فقالت لنا حنون اسمي وسعرها
ثلاث بتسع هكذا غيركم بعنا
في هذه الحكاية من الفن القصصي في خمريات أبي نواس، ينفرد أبو نواس بالحديث معلنا بأنه الشخصية الرئيسة في هذه القصة، ولأن الموقف لا يتسع للمماطلة ولا يسمح بالتسويف؛ فقد كانت هناك كثافة كلامية في حيز ضيق لا يعدو بيتا واحدا من الشعر، خلا من أدوات الربط والإضافات، واعتمد على مصادر الكلمات.
ترى لماذا لجأ أبو نواس إلى هذه العجلة من الأمر - ولا سيما - أنه قد ضمن المنادمة على الخمرة؟ فهل كانت الحياة قاسية عليه خانقة له، حتى يطلب الخمرة دون أناة ولا تمهيد، بل أنه جمع كل وقت قد يطول في المناقشة بكلمات معدودات؟
يصف أبو نواس كؤوس الخمرة، والخمارة تحملها وبانت له وهي تتلألأ تشع مثل الشمس بضفائرها الذهبية، فهل هي شمس الحرية؟ جعل أبو نواس الخمارة والخمرة في مرتبة واحدة من الحسن والجمال في سؤاله عن اسم الخمارة أولا ثم عن سعر الخمرة ثانيا، فلو كان الخمار رجلا ترى هل سيسأله عن اسمه؟!
اعتمد الحوار على «حسن التقسيم» الذي أضفى إيقاعا موسيقيا سريعا ومتلاحقا، سؤال وجواب بين أبي نواس والخمارة، وهي مهارة برع بها أبو نواس؛ إذ نسج القصة وكيـّفها بحسب القالب الشعري الذي يحكمه الوزن وتقيده القافية ويضبطه الروي، إلى هنا السرد القصصي في هذه القصيدة كان تقليديا ومتناميا وقد شكل مقدمة الأقصوصة، حتى بانت بوادر الذروة التي تعد (قمة الشيء) ويطلق عليها (العقدة)، ففي هذه القصيدة لا توجد أحداث متشابكة، ولا عقد عمياء، بل هو حدث واحد وعقدة واحدة، بدأت من عجز البيت حينما قالت لهم الخمارة «ثلاث بتسع هكذا غيركم بعنا»، ويتجه ظني أنها أرادت أن تقول أنتم ثلاثة أشخاص شربتم ثلاث كؤوس، كل كأس بتسعة دراهم المجموع الكلي هو سبعة وعشرون درهما، وهو السعر المعتاد التي تتعامل به مع الآخرين.
العقدة: أنشد أبو نواس:
ولما توالى الليل أو كاد أقبلت
إلينا بميزان تنقدنا الوزنا
فقلت لها جئنا وفي المال قلة
فهل لك في أن تقبلي بعضنا رهنا
فقالت لنا أنت الرهينة في يدي
متى لم يفوا بالمال خلصتك السجنا
يرى أبو نواس أن الموالي لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأنهم مساكين في حالهم وهيئتهم، لا يملكون من أمر نفسهم شيئاً، دخلوا نور الإسلام ليتمتعوا بالعدل الاجتماعي الذي جاء في القرآن الكريم؛ فلما أصيبوا بخيبة أمل، غدا الأمر سيان لديهم إن كانوا أسرى لخمارة أو أسرى لنعرة وعصبية وعنصرية عرقية ما أنزل الله بها من سلطان. وأبو نواس في هذه القصيدة القصصية بدأ تراجيدياً وانتهى درامياً، ولعله يحذر من مغبة سوء المعاملة لهذه الفئة التي توسمت خيراً بدخولها في دين الإسلام الذي نزل كافة للناس، ويرجون أملاً بإنصافهم ومعاملتهم بالحسنى، مثلما كانت هذه المعاملة في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فيما عدا هذين العهدين؛ فلا العصر الأموي ولا العصر العباسي كان منصفا للموالي، بل إن العصر العباسي شهد خلافات وتصفيات دموية في بيت الحكم بين العلويين والهاشميين حتى أفشى الظلم والاستبداد في العباد، وعمت الفوضى في مؤسسات الدولة. فما ذنب هؤلاء الموالي؟ لربما الرهن والسجن عند خمارة كان أرحم من حرية مهمشة مشوهة عرجاء.
نهاية الحدث المتكامل: أبو نواس في هذه القصيدة القصصية قد سبق عصره في مصطلح (النهاية المفتوحة أو النهايات المفتوحة) في فن القصة والرواية الحديث. فلا نعلم هل رضي أبو نواس أن يصبح رهينة لهذه الخمارة ريثما يذهب رفيقاه لجلب المال؟ وهل باستطاعتهما فعلاً تدبر أمر الدراهم ليفكا رهن صاحبهما؟ إذاً نهاية هذه القصة متروكة أو قل مفتوحة للسامع أو للقارئ يغلقها كيفما شاء.
الخاتمة: هناك قراءتان للنص الأدبي، أي نص أدبي بجميع أجناسه؛ القراءة الأولى هي (قراءة النص من الخارج)، وهي السائدة وما زالت تلقن في قاعات الدرس إلى يومنا هذا، وهي قراءة مسطحة تقتصر على الرصد التاريخي لحوادث العصر؛ فإذا كان النص نصا شعريا ينظر بهذه القراءة لبيئة الشاعر ونشأته، وتقرأ قصائده عروضيا (البحور بأوزانها، القافية، الروي)، والبلاغة بأقسامها (البيان، المعاني، المحسن البديعي) واللغة (النحو، الصرف).
أما القراءة الثانية وهي الأكثر جدلا ويطلق عليها (قراءة النص من الداخل) ويحق لي أن أسميها (ميتافيزيقيا أدبية)، وهي قراءة سيميائية فلسفية معمقة فيها إعمال للعقل في رمزية الأدوات والأماكن والألوان والأسماء؛ فعلى سبيل المثال اسم الخمارة (حنون) يرمز إلى الحنان المنشود الذي لم يمنح للموالي من السلطة الحاكمة؛ بيد أنهم وجدوه في الخمرة والخمارة. إذاً هذا الترابط الرمزي قد تكون له أبعاد سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية، وقد يعد إسقاطات من الشاعر (كاتب القصيدة وناظمها) يتوارى خلفها لإبداء رأي أو التذمر من شيء ما لم يبح به صراحة، وهذه القراءة السيميائية بتداخل صورها تعبر عن وجدانيات عميقة ومواقف معنوية وآراء وأفكار وحلول أيضا. ولعل أبا نواس هنا من الذين ساهموا في وضع اللبنات الأولى للمدرسة الرمزية الحديثة في أوروبا بلد الضباب، ثم اعتنقها أدباء المهجر اللبنانيون...
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com