الرأي اليوم / الشيخ ناصر الصباح... الدّينُ النّصيحة
قبل نحو عام، وعندما تمّ تعيينكم نائباً أول لرئيس الوزراء وزيراً للدفاع، كتبنا هنا أن الكويتيين يأملون الكثير منكم في قضيّتين أساسيّتين: مكافحة الفساد وتطهير الإدارات من الخلل والتجاوزات والمخالفات، وتطوير الحياة العامة سياسياً واقتصادياً.
واليوم، نعيد ونكرّر، لا أحد يشكّك للحظة في صدق نواياك الإصلاحية وحبّك لبلدك وحماستك لتنفيذ الرؤية الاقتصادية عبر مجموعة مشاريع عملاقة تنقل الكويت من مرحلة إلى أخرى.
ولا أحد تتوقّف شفاهه بدعوات الصحة والعافية لكم عندما يرد ذكر اسمكم ما يعكس محبّة الناس والتفافها حولكم وتقديرها للخطوات التي ستتقدّمون فيها إلى ميادين التنفيذ.
ولا أحد يغفل عن أنّكم من مدرسة صباح الأحمد. نهلتم منها الكثير وأهم ما تعلمتموه هو الحفاظ على ثوابت الكويت مع فتح آفاق العمل والإنجاز إلى أوسع مدى وفق رؤية عصرية تفرضها تحديات الحداثة.
ومع الإعادة والتكرار لا بد من نصيحة ربما فرضها واقع الكويت الإداري والخدماتي والسياسي. نصيحة ولدت من رحم المتابعة للتحدّيات التنمويّة الكثيرة التي فشلنا في مواجهتها وفرضها استخلاص العبر... وما أكثرها.
مواضيع مثل مدينة الحرير وطريق الحرير وتطوير الجزر عناوينها جاذبة، محفّزة، تزرع الأمل بغدٍ أفضل، لكن ما أصعب الأحلام حين يحول شبر ماء مثلاً الأمل إلى كابوس ويكشف أن المشكلة في ضعف الإدارة لا قوة المطر. ما أصعب الأحلام حين تنكشف كل شوارع الكويت على صخور وحفر، وتنكشف عشرات الشهادات الجامعية على تزوير، وعشرات التلزيمات على فساد، وعشرات المشاريع على جمود.
نصدقكم القول إنه في ظل الوضع الحالي تبدو مدينة الحرير، وطريقها، وتطوير الجزر أقرب إلى المستحيل. هذه المشاريع العملاقة تحتاج بداية تغييراً جذرياً في شكل ومفاهيم وأساليب الإدارة، وهي بداية غير ملموسة أو حاضرة، وتحتاج إلى الكثير من الاستعداد والتحضير وهذا الكثير يبدو قليلاً اليوم أو غير منظور. وقبل تحقيق ذلك كله سنبدو كمن يدخل سباق سرعة دولية على عكازتين.
عندنا الرؤية، إنما لا خطط تنفيذيّة واقعيّة. عندنا الكوادر إنما ثروتنا البشرية التي نفتخر بها مكبّلة بأكثر من قيد. عندنا إرادة إنما الإدارة مترهّلة كسولة ينخرها الفساد... وقد لا نبالغ إذا قلنا إن من يزايدون ويبالغون ويمجّدون ويطبّلون ويزمّرون لهذه المشاريع هم أبعد الناس اقتناعاً بها، إنما يفعلون ذلك لأنكم ناصر صباح الأحمد، ولو كان من اقترح هذه المشاريع أحد آخر لما سمعنا قصائد المديح هذه.
الشيخ ناصر الصباح. تريدون الإصلاح وتسجيل بصمة على صفحة الكويت، وهذا لا شك فيه. إنما عندما تغلق الأنفاق الخدماتية والاقتصادية والسياسية لأبسط الأسباب فلا بد من العودة إلى البدايات لتشخيص الداء ووصف الدواء. البدايات هنا تدعوكم أن تفتحوا ملف التعليم قبل فتح الطرق والمدن، هذا الملف هو كارثة حقيقية تكشف هوّة سحيقة بين حاضر الأجيال ومستقبلها. التعليم عندنا سواء تعلّق الأمر بالمناهج أو بطرق التدريس أو بالمخرجات يحتاج إلى ثورة إصلاحيّة، فلا مستقبل بلا قادة ولا قادة بدون خلفيّة علميّة مميّزة في بلد لا تنقصه الإمكانات إنما ينقصه توجيه هذه الإمكانات في خدمة التنمية البشرية عبر القطاع التربوي... ولكم في جزيرة صغيرة اسمها سنغافورة خير مثال عندما جعلت التعليم أولويّة منذ ستينيات القرن الماضي فاستحقت موقعها العالمي المتقدم.
ومع التعليم، وبالتوازي، لا بد من الاهتمام بتطوير وتحديث الإدارة الحكومية المنوط بها تسيير أمور البلاد والعباد ونفض غبار الترهّل والمحسوبيّات والواسطات والبيروقراطية وحشر الموظفين بالآلاف حتى في أماكن لا تتناسب مع مؤهلاتهم. لا يمكن لأسلوب العمل في الجهاز الإداري عندنا إلا أن ينتج الفساد، وليس من المبالغة في شيء القول إن الفساد من أهم مخرجات الإدارة. وعندما تبدأ معاول القرار السياسي بهدم الإرث الإداري المتخلّف وبناء الأرضيّات المطلوبة لنهج جديد علميّ متطوّر وعصريّ فهذا يستقطب الرساميل ويجذب الاستثمار ويسهّل مساهمة الشركات العالمية في المشاريع العملاقة التي تقترحونها لنقل الكويت من مرحلة إلى أخرى.
وبين إصلاح التعليم والإدارة تكتمل أضلاع المثلث بتطوير النظام السياسي الكويتي إلى مزيد من الحريات والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار. وهنا نحن نتحدّث إلى شخص عركته التجارب الإصلاحيّة وخرج منها أكثر نضجاً والتصاقاً بالواقع. بين بقاء الوضع السياسي الحالي والمشاريع المغامرة وحتى المقامرة التي لجأ إليها البعض، هناك طريق ثالث يكمّل ما نصّت عليه مبادئ الدستور لجهة التطوير والتحديث ولا يستورد تجارب الآخرين أو ينتظر كي تنزل عليه بالمظلات. دستورنا يسمح بتطوير النظام السياسي وزيادة المشاركة الشعبيّة في الحكم، وهذا الأمر يحتاج إلى رجال دولة وفريق عمل قادر ولا يحتاج إلى متكسّبين آنيّين أو هواة فوضى أو منفّذي أجندات عابرة للحدود.
قبل عام ختمنا بالقول: «المسار هو الاختبار»، ونحن إذ نبتهل إلى الله أن يمنّ عليك بالصحة والسلامة والتشافي، فإننا نتطلع في الوقت عينه إلى بدء ترجمة الأولويات التي ذكرناها، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم... ومن مثلكم لا تنقصه العزيمة.