قضية / بعدما غاب مفهوم القراءة وحكاية «ما قبل النوم»
أطفالنا تائهون... في ثقافة تصنعها أجهزتهم الذكية
كيف يمكن أن ننمي مهارة الطفل في التخيل، بينما لم تعد موجودة تلك القصص التي كانت تُقرأ له شفاهياً، أو قل إنها غابت في زحمة الحياة، وبين دهاليز الأجهزة الذكية، التي اتخذها الأطفال عوضاً عن الجلوس إلى الأم أو الأب أو الجد أو الجدة، في ليال يتملكها الدفء الأسري، ويحتويها الخيال بكل أشكاله، للاستماع إلى حكاية «ما قبل النوم»؟
قديماً... منذ سنوات قليلة مضت كان الأطفال يتحلقون حول الراوي - وهو في الغالب من أحد أفراد الأسرة - يستمعون بإنصاتٍ وتأدّب إلى قصة من قصص الحياة، التي رغم بساطة أحداثها، وتكرارها في الكثير من الأحيان، إلا أنها كانت تمثل عناصر مهمة في تنمية مدارك الطفل ونشوء خياله ونمو مشاعره الخلاقة، تلك التي تدفعه إلى أن يكون في حالة دائمة من التفكير والتخيّل واستشراف الحياة، والتحام حقيقي مع الواقع الذي يظهر في القصص المرويّة له في أشكال خيالية غير واقعية. فالطفل - بطبعه - يريد أن تكون خبراته المتراكمة من خلال الحكاية التي ربما تكون في شكل حكاية، أو حتى أحداث تتشكل في ذهنه إلى قصة، أو وقائع يومية بسيطة، تلتصق بذهنه، وتكون محصلتها تجارب متراكمة، يستطيع من خلالها أن يكون إنسانا نافعاً ومفيداً لمجتمعه.
كما أن ميزة القراءة من كتاب قد انحصرت، ولم تعد موجودة في يقين الطفل، تلك القراءة التي كانت تساهم بشكل فعّال في تنمية مهاراته الحسية والوجدانية والخيالية، لتحل محلها الأجهزة الذكية بكل ما فيها من ألعاب إلكترونية، أثبتت الدراسات والأبحاث التي أجريت عليها أنها تفتك بالذهن وتضعف من قدراته على الوعي الحقيقي بالخيال، وتحوله إلى طفل المستقبل لا يستطيع أن يكون متفاعلا مع المحيطين حوله، وحتى استماعه أو مشاهدته للقصص التي تعرض له على شاشة التلفاز أو عبر الأجهزة الذكية، من تلفون ولاب توب وأي باد وخلافه، هي في الأساس – مهما بلغت تقنيتها من تطور وتجهيز – إلا أنها تصنع من ذهن الطفل جهازاً لاقطاً للأحداث من دون ترك مساحة من الإلهام والتخيل، فهو يشاهد الصور التي تتحرك أمامه سواء كانت من خلال شخصيات إنسانية أو كرتونية، ثم لا يجد له متسعاً كي يحرك أو يحلل تلك الصور، بينما في القصة التي يقرؤها ورقياً هناك تفاعل من خلال العينين، والتفكر في الأحداث، ومن ثم التفاعل معها.
وربما تكون النتيجة متقاربة لو أن الطفل قرأ قصة إلكترونية... ولكن في ظل الإغراءات الإلكترونية من خلال زحمة المعروض من الأفلام التي تتوجه إلى الطفل – ومعظمها مدمر للأخلاق والنخوة والإنسانية – فإن الطفل لن يجد مزاجا كي يقرأ قصة مصورة إلكترونياً، إلا بضغط من الأسرة، وفي هذه الحال لن تجدي القراءة لأنها مبنية في الأساس على ضغط.
إن انشغال الطفل بأجهزته الذكية ليل نهار، وانغماسه في المشاهدة واللعب من دون استخدام قدراته الخلاقة في التخيل والابتكار ستجعل منه فردا منقاداً في المستقبل، لا يتمكن من اتخاذ قرارات تتعلق بمصيره وحياته، أو أنه سينشأ وقد تملكه الإحساس بالعجز عن مواجهة الواقع، وتحسين كفاءاته في عمله مستقبلاً أو التعامل مع الآخرين، ما قد يجعله معتزلاً في نفسه، تحس بانكساره، إلى درجة الانزواء في داخل ذاته، والاكتفاء بمتابعة محيطه الخارجي، من دون أي تفكير أو تأمل، وربما تجده طائشاً عصبياً، لا يقبل بوجود الآخرين معه، ما يجعله في حالة شديدة من العدوانية، والرغبة في التدمير... إنه يدمر أي شيء حتى نفسه.
الكثير منا لا يقدر المسؤولية التي سيتحملها في المستقبل تجاه أطفاله، وهو لا يحرك ساكناً، بينما طفله يعيش حياته وسط أجهزته الذكية، من دون أن تترك له فرصة في أن يقرأ كتاباً، أو يجري الأبوين والأهل معه حواراً بسيطا حول حياته، فقد يمر اليوم من دون أن يحاور الابن أحد الأبوين في أي شيء يخصه، متجاهلين التخريب الذي يحدثه في مخيلته ذلك الجهاز الإلكتروني الذي في يده، وملأ مساحته الحياتية.
الكثير منا لا يقدر قيمة القراءة في مستقبل الأبناء... تلك التي ستدفعه دفعاً إلى النجاح، والمحفز للتفكير والخيال... كما لا يقدر كثيرنا قيمة القصة أو الحكاية التي تروى للطفل، وقد يعيش الصغير فترة طفولته كلها، وهو لم يستمع من أحد أبويه لأي حكاية، ولم يتغلغل الحوار الأسري في نفسه، ولم يتمتع بثقافة القراءة، والاطلاع على الفنون التشكيلية، والاستماع إلى الموسيقى الهادئة، ومتابعة الأخبار المتعلقة بالعلم.
إننا نترك جهازه الإلكتروني هو من يعلمه ويصنع شخصيته، من دون أي تدخل منا، ونقول بكل بساطة: إن هذه الأمور هي لغة العصر، رغم أن المجتمعات الغربية لا تفعل ما نفعلهم... فهي تحدد مسارات منظمة للطفل، وتعطيه مساحة واسعة من التفكير والابتكار، إلا أننا في مجتمعاتنا العربية نترك أطفالنا للظروف وللحظ، في مسألة نجاحه أوفشله.