قضية / بعدما سيطرت المصالح على الحياة وتبدلت المفاهيم
الإبداع الإنساني الجاد... خسر دوره التنويري في مواجهة الإسفاف
ليس الأدب وحده من فقد القدرة على التأثير في مجتمعاتنا العربية، ولكن هناك إبداعات أخرى تتأخى معه في ذلك، منها الفنون الجميلة بكل عناصرها، والمسرح، والدراما وغير ذلك من الإبداعات الإنسانية، تلك التي كان له دور بارز في إمداد الإنسان بمقوماته التي تمكن خلالها من أن يكون كائناً راقياً لديه مشاعر وضمير وقلب ينبض بالحب، وعقل يفكر في أبعد من الخيال، ويساهم بشكل خلاق في إعمار الأرض، ورؤى بعيدة استطاع بفضلها أن يتفاعل مع نفسه أولاً ثم مع الجماعة التي يتعايش معها ثانياً، وذلك وفق ما أعطته له هذه الإبداعات من مفاهيم ومعان، تجمعت في ذهنه وتكوّنت في مشاعره، وتواصلت في سعيه لأن يكون كائناً متميزاً لا تتحكم فيه الغريزة وحدها، ولا تسيره الصدفة، ولا تحدد طريقه العشوائية والفوضى.
لقد تمكن الإنسان بفضل هذه الإبداعات أن يكون مرتباً في تفكيره وسلوكه، مهذباً في أخلاقه، ممعناً النظر في كل خطوة يخطوها نحو أهدافه.
وحينما انقلبت الموازين، وطغت السلوكيات السيئة على كل ما يخص الإنسان، وانهزمت إرادة الحياة الإنسانية أمام زحف الماديات، والبحث الدؤوب غير المتوقف عن المصالح التي تجلب السعادة، تلك التي يراها الإنسان متجلية في وفرة الأموال والمنافع المادية التي يلهث خلفها الإنسان، مما جعله غير مهتم مطلقاً بالإبداع الأدبي والفني، ذلك الذي يرى فيه سراباً لن يحقق له ما يصبو إليه من السعادة والبزخ، والحياة المترفة.
وكيف له أن يضيع الوقت في قراءة الشعر الجاد الذي يدفعه إلى إعمال عقله في التفكر والتدبر والتأمل، وتحريك مشاعره في اتجاه السلوكيات الإنسانية الخلاقة، وهو اللاهث خلف مصالحه ورغباته في تأمين الأموال التي يراها - أو أن الواقع دفعه لأن يراها - هي الصانعة الحقيقية لموقعه في مجتمعه، فما الفائدة إن كان يكتب الشعر أو يقرأه وهو مفلس ليس من حوله دائرة كبيرة ومتشعبة من المصالح، إنه في هذه الحالة لن يتمكن من الصرف على أولاده وإدخاله أرقى المدارس والتباهي بوجاهته، ومواجهة أي عارض مرضي بالذهاب إلى أرقى المشافي.
وفي المقابل هو يحتاج إلى الشعر الهزلي ليضحك ويمرح و»يقهقه»، وبالتالي انبرى نفر من هؤلاء الذين لا تفرق معهم مسألة الشعر وراحوا يبثون له الإسفاف الذي يرغبه، بكلمات مسطحة، ومعان تخلو من أي مقومات أدبية... وإلقاء يجمع بين التمثيل والتهريج، في شكل لا يشير مطلقاً إلى قيمة الشعر.
والأمر كذلك ينسرب على القصة القصيرة والرواية والمسرح والطرب والفنون الجميلة والدراما... فالناس لم تعد تريد المنفعة الروحانية ولا تريد الجدية، تلك التي تدفعه إلى التفكير السليم، ومن ثم فقد راجت الفوضى في تناول هذه الأعمال الأدبية، لنجد قصصا وروايات، خالية من أي مضمون ولكنها تجد رواجا منقطع النظير، بين جمهور القراء، وتحصد الجوائز، وتجد طريقها نحو الشهرة، صحيح أنها شهرة آنية غير مستمرة، ولكنها في النهاية شهرة، في مقابل أعمال جادة لا تجد إلا الإهمال والتجاهل، فامتلأت الساحة بالغث الذي لا مفر من اعتماده كلون أدبي يقبل عليه الجمهور، وكذلك في الفنون التشكيلية، التي تشهد أتعس زمن لها، من خلال ما تحتويه الساحة من تراجع فعلي في طرح الأفكار التي تخدم الذهن المتقد الذي يريد التفكير والتأمل. في ما أصبح المسرح الجاد مكبلاً بالهزل من خلال الإطاحة بخشبة المسرح وتحويلها إلى خشبة للهرج، وتبادل النكات، بينما غاب المضمون من النص، وغابت المهنية من الأداء، ومن ثم فإن المسرح الجاد لن تجد إلا في المهرجانات التي هي في الأساس تقام كتحصيل حاصل، ولا يراها الجمهور، لذا فإنها فقدت قيمتها والرسالة التي وضعت من أجلها. والدراما والسينما العربية التي لم تعد سوى مناظر خالية من المضمون وأفكار مسطحة، تتعامل مع ممثلين ومنتجين وحتى مؤلفين ومخرجين، لا يبحثون إلا إلى الكسب السريع، ولا يهمهم التخريب الذي يحدثونه في أركان مجتمعاتهم.وفي سياق هذا الفقد - الذي حلّ على حياتنا الإبداعية - ضاعت الأحلام، وتبدلت القناعات، وتنازل المبدعون عن أماكنهم ليحتلها الآخرون الذي يبددون الأمل في التغيير، ويحركون الواقع في تجاه تفاهاتهم، ويدمرون كل ما في الضمائر من إنسانية، ويحركون الشر بمختلف ألوانه، صوب الحياة التي تزداد غموضاً.