قضية / خسر قدرته على التأثير وسط عاصفة من الفوضى والتسطيح

الأدب... في مهبّ مواقع التواصل الاجتماعي

u0645u0646 u0623u0639u0645u0627u0644 u0627u0644u0641u0646u0627u0646u0629 u0627u0644u0643u0648u064au062au064au0629 u0648u062fu0627u062f u0627u0644u0645u0637u0648u0639
من أعمال الفنانة الكويتية وداد المطوع
تصغير
تكبير

اكتب ما تريد بحرية تامة من دون التقيد بأي مواصفات لغوية أو أدبية أو حتى أخلاقية، واقذف ما كتبته على صفحتك المتاحة على «تويتر» أو الفيس بوك، وستجد - بكل تأكيد - من يؤيدك ويمنحك «الإعجاب»، والتعليق وأحيانا سيتبرع طواعية بنشر ما كتبته على الأصدقاء الذين في صفحته.
وأنت خلف شاشة تلفونك الذكي أو «اللاب توب» أو كمبيوترك الشخصي... ستظهر البهجة على وجهك، بينما كتاباتك الساذجة تأخذ طريقها إلى النشر بين قائمة أصدقائك الذين يكثر أو يقل عددهم، لا يهم وقتها إن هذا الذي تكتبه يقترب كثيراً أو قليلاً من الإسفاف أو الهزل أو البذاءة، المهم أنك تكتب وتنشر، انتقاما من سنوات مضت كان فيه النشر محفوفاً بالتعب والجهد والإرهاق، والسهر من أجل التثقيف والتمكن من الأدوات اللغوية والأدبية، نعم أنت تنتقم من هؤلاء الذين عرفوا طريقهم جيداً إلى الثقافة والمعرفة، ولم تكن أوعية النشر متاحة أمامهم إلا من خلال التميز والتفوق، وحتى إن كان هناك نفاق أو وساطة في النشر، فإن القراء سرعان ما يكتشفون الحقيقة، ولن يستمر وجودهم طويلا على الساحة.
أعرف أن معظم من صنع مجده الإبداعي قبل هجمة الإنترنت - ولا يزال على قيد الحياة - الآن يعيش صمتاً مفزعاً - ربما - لا يعقبه حديثاً، فمن هؤلاء من يعيش على أمجاد ماضيه، حينما كانت للكلمة قيمتها وللأدب معناه، وللغة تقديرها، بينما ملكته الإبداعية غير قادرة على أن تضيف شيئا، ليس بسبب نضوب معينها، ولكنه الإحساس بعدم الجدوى، وتراجع الذوق العام، الذي كان بمقدوره التفريق بين الغث والسمين، وتهافت التسطيح على أن يكون في سدة الاهتمامات.
إنك... حينما تتحدث عن موقف ما أو رؤية محددة، أو حتى عن حدث راهن، وتود أن تقتطع بعضاً مما قيل عنه من النتاج الأدبي والإبداعي، لن تجد أمامك غير الأدباء القدامى - ومعظمهم فارق الحياة - بينما لم يفرز الواقع الأدبي بعد هجمة الإنترنت أدباء تعوّل عليهم في ما تريد أن تستشهد عليه، وحتى من هم كانت مسيرتهم الأدبية مكللة بالنجاح، ثم تعرضوا لهجمة الإنترنت، ليس بمقدورك الاعتماد عليهم في استشهادك، لأن الذوق تغير، وأصبحوا على المحك، والقناعات تبدلت لتراهم وقد اجتمعوا في جدلية غرائبية مع أولئك الذين يكتبون من غير وعي أو إدراك.
نحن نعيش على أمجاد الماضي، منذ سنوات مضت، بينما الحاضر والمستقبل في غموض، لا نستوعب أو نتوقع أي بارقة أمل تلوح من أجل تصحيح مسارهما.
بعض الأدباء الذين نرى أنهم كبار ابتعدوا عن مواقع التواصل الاجتماعي، ويمارسون مع أنفسهم الموت طواعية، من دون أن يذكرهم إلا القليل، إنهم تائهون في معمعة لم يتوقعوا حدوثها، غاضبون من الزمن الذي تبدلت قناعاته، وتوقفت أحلامه الأدبية في مستويات غاية في التسطيح والنفاق.
 والبعض الآخر... لا يزال يعاند ويصابر، أملاً في أن يحقق لإبداعه القيمة المرجوة، غير أنه - في الحقيقة - ينزلق بكامل إرادته، او من دون وعي منه إلى التسطيح، ليجاري لغة الإنترنت، من حيث المحتوى الفارغ مضموناً وشكلاً، رغبة منه في ألّا يموت واقفاً على أرض لم تعد تطيق جديته وحرصه على الإبداع بشكل مخلص، لذا فإنه يناكب الواقع ويناوشه، ويغازل التسطيح، ومع ذلك سيظل غير مرغوب فيه، لأنه لم تتربَ رؤيته منذ البداية إلا على الإبداع الحقيقي، الذي يمكث في الحياة، ويحرك المشاعر في اتجاه الجمال.
حقيقة لم تعد الساحة مؤهلة في الوقت الراهن، لدفع أدباء مؤثرين، في ظل الفوضى التي تشهدها أوعية النشر الإلكتروني، لأن البحث الآن يجري بشدة في اتجاه المظاهر التي يجيد صنعها أولئك الذين يفتقدون إلى المضمون، وهي مظاهر لا تحتاج جهداً ولا وقتاً بقدر حاجتها إلى تغييب الضمير، وتفعيل مفهوم الصدمة ومخالفة السائد في ما يخص المواقف الأخلاقية، مثل التحدث عبر مواقع التواصل الاجتماعي ببذاءة، والتعري الرخيص، والدخول بجهل إلى أتون مواضيع تحتاج إلى العقل والفكر والتحليل الموضوعي، غير أن هؤلاء يسطحون الفكرة ويجعلونها مادة لجدل عقيم تبذل فيها الآراء التي تتسم بقدر كبير من السطحية واللامبالاة بالعمق والتفكير الرصين.
ولأننا خسرنا الحاضر - وربما المستقبل أيضاً – فليس في وسعنا إلا استحضار الماضي البعيد بأدبائه ومبدعيه، والنابهين فيه، كي نضعهم في استشهاداتنا وكتاباتنا، مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس وفهد العسكر، وأمل دنقل، ويحيى حقي، والعقاد، والسياب، والجواهري، ومحمود درويش، وعبد العزيز الرشيد، والفيتوري، وغيرهم الكثير من الذين استقامت كتاباتهم وتربت في بيئة صالحة، لم يفسدها الإنترنت، ولم يضيع مستواها التسطيح، الذي نشهده الآن بكل أدواته على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس لنا القدرة على مواجهته، لأن المسألة تندرج ضمن حرية التعبير، والكل يمتلك صفحة على الانترنت، وله الحق في أن يكتب فيها ما يشاء.
ولكن الذي يحدث أن التسطيح والهزل سيطرا بكل قوة على العمق والجدية، فالأديب الجاد ليس له رغبة أو حتى الوقت الكافي، ليتابع الإنترنت ليل نهار، ويجامل وينافق، ليحصد في النهاية ما قام به من خلال تفاعل الآخرين معه، ومن ثم فإن الكتابات الجادة، التي لا يحظى صاحبها بنشاط مكثف على مواقع الإنترنت، ستقابل بالتجاهل، ولن يكون لها أي تأثير.
إن المتابع للإنترنت - في معظم الأحوال- يبحث عن موضوع ضال وغير مفيد، إنه يبحث عن الفتاة التي رقصت في مكان عام، كي يتفاعل مع سطحيتها، بآراء مكثفة سلبا أو إيجابا، مما ستؤدي في النهاية إلى شهرة هذه الفتاة، أو تتبع كتابات واحدة لا تعرف الفرق بين العقاد وطه حسين، لنكتب اسمها - من دون وعي منا - في سجل المشهورات.
إننا نفتش في أروقة الإنترنت عن مواضيع صادمة وغير مقبولة ومسطحة، كي نضع أصحابها على أعتاب الشهرة، بترديدها، والإضاءة عليها قبولا أو نفورا... لكننا أبدا لن نبحث عن الكتابات الجادة، وعن الأدباء الحقيقيين، الذين يعيشون بيننا، كي نكتب عنهم، ونتداول إبداعاتهم، ونناقش أفكارهم.
نعم لن نبحث عن الإبداع الحقيقي، وسنتركه في مهملات أنفسنا، وخلف وعينا، كي نتخلص تدريجيا من كل شيء جميل في حياتنا.
إننا فهمنا وسائل التواصل الاجتماعي خطأ وتعاملنا معها بفشل، وهذه مسؤولية الجميع في عالمنا العربي، اعتبرناها حقوقا مكتسبة لنا، يجب أن نتصرف فيها كيفما نشاء، وفي الوقت نفسه تخلصنا من الوعي المجتمعي، ولم ننتبه لحاضرنا ومستقبلنا، وقررنا بشكل جمعي أن نحقق للتسطيح الشهرة، وأن نتعاون بصدق وأمانة مع المغامرين بضمائرهم بغية مكاسب شخصية ضيقة، وأن نهمل الأدب الجاد ولا نضعه في حساباتنا مطلقا.
فهل تستمر هذه المأساة، التي لم تقع في شرها إلا مجتمعاتنا العربية، هل نتوقف عن النزيف الذي يحدث لأدبنا العربي، ونتوقف عن مناصرة ومساندة التسطيح والبذاءة، والنفاق، والتفاهة... أعتقد أن ذلك ليس بقريب، وليس بالسهولة التي نريدها، فالمسألة قد جمحت، عن المعقول، وهي تتمدد الآن في كل المساحات التي تملأ حياتنا، بل إنها تتغلل في النفوس الندية، وترسل إشاراتها السلبية لكل الأذهان، بأن أدبنا العربي يغرق، وأن أطواق النجادة مفقودة!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي