«مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ»... سلسلة تستعرض أعشاباً ومزروعات فيها فوائد علاجية ووقائية
زيوت عِطرِيَّة... تأثيراتها سِحرِيَّة
الزيوت العِطرية هي سوائل طبيعية ذات كثافات متفاوتة أقل من كثافة الماء، ويتم استخلاصها بطرق معينة من نباتات عطرية معينة أو من زهورها، ويتطاير عبيرها بسهولة عبر الهواء فتكون لها روائح فوّاحة متميزة. ويكمن سر ذلك في أن تلك الزيوت تحوي مواد ومركبات عطرية معينة هي المسؤولة عن انبعاث العبير، حيث تتميز تلك المواد بخاصية التطاير سواء تحت الظروف العادية أو تحت تأثير التبخير.
وقد أثبتت نتائج أبحاث ودراسات علمية كثيرة أن لكل واحد من تلك الزيوت العطرية تأثيرات إيجابية على الإنسان سواء عند تبخيرها واستنشاق عبيرها، أو عند استخدامها كدهانات موضعية، أو عند تعاطيها ضمن وصفات مشروبات.
وثبت بحثياً أيضا أن تلك التأثيرات تتضاعف عند مزج توليفات من تلك الزيوت واستعمالها بأي من الطرق الثلاثة المشار إليها آنفاً، إلى درجة يمكن معها القول إن للزيوت العطرية «تأثيرات علاجية سحرية» على المستويات المزاجية والنفسية والموضعية والفسيولوجية.
وتاريخيا، تشير سجلات ومؤلفات قديمة إلى أن الزيوت العطرية عُرفت واستخلُصت واستُخدمت لأغراض علاجية وتلطيفية واستجمامية متنوعة منذ عشرات القرون. فعلى سبيل المثال، هناك برديات وآثار فرعونية تشير إلى أن المصريين القدماء كانوا أول من اكتشفوا الزيوت والدهون العطرية واستفادوا من خصائصها العلاجية، ناهيك عن فوائدها في التعطُّر والتبرج. وعندما اجتاح مرض الطاعون مدينة أثينا قبل الميلاد، أمر الطبيب الإغريقي «أبقراط» (أبو الطب) بإحراق ورود وأوراق نباتات عطرية معينة في الشوارع والميادين لمنع الوباء من الانتشار. فلقد كان «أبقراط» يعلم أن للأبخرة العطرية المنبعثة في الهواء دورا فعالا في مكافحة انتشار الميكروبات الخبيثة المسبّبة للطاعون.
في حلقة اليوم، نصحبكم في نظرة عامة على الزيوت العطرية، وخصائصها، وفوائدها، وغير ذلك...
تعريفها... وتوصيفها
توجد العطور في بعض النباتات المعيّنة على هيئة زيوت أساسية، وتكون مزيجا من مواد طيبة الرائحة ومواد أخرى لا رائحة لها. وغالبا، توجد تلك الزيوت في سيقان وأوراق وأزهار تلك النباتات.
بشكل عام، تتألف الزيوت العطرية من مكونات عضوية وطبيعية متنوعة، وهي تكون ممتزجة في الدهون النباتية على الرغم من كونها لا تحوي أي مكونات دهنية في حد ذاتها. وتكون قابلية هذه الزيوت للذوبان أو الانحلال في الماء ضعيفة. لذا، فهي تطفو على هيئة قطيرات على السطح عند اضافتها إلى الماء.
وعلى عكس الزيوت الدهنية، تتبخر الزيوت العطرية بشكل كامل ولا تترك وراءها أي أثر. ومعظم الزيوت العطرية يسهل فصلها عن الأجزاء النباتية الحاملة لها بطرق استخلاص متنوعة من أبرزها التبخير والتكثيف والتقطير.
خصائصها الطبيعية
لكل زيت من الزيوت العطرية خصائص طبيعية تمنحه صفاته التي تميزه عن غيره. وتتشارك الزيوت العطرية في بعض تلك الخصائص بينما تتباين في البعض الآخر. ومن بين أبرز تلك الخصائص نذكر التالي:
? اللون: معظم الزيوت العطرية عديمة اللون، وبعضها يكون مشوبا باللون الأصفر، وتوجد أنواع قليلة بدرجات اللونين الأزرق والأخضر.
? الرائحة: معظم الزيوت العطرية تتميز برائحة عطرة وزكية، لكن هناك أنواعاً رائحتها نفاذة أو غير مستحبة نسبيا.
? التطاير: تتشارك الزيوت العطرية في كونها قابلة للتطاير سواء تحت الظروف الطبيعية والعادية، لكنّ هناك أنواعاً تحتاج إلى التبخير كي تتطاير.
? عدم الذوبان في الماء: جميع الزيوت العطرية تكون غير قابلة للذوبان أو الانحلال في الماء، لكنها تذوب في الكحول بنسبة 95 في المئة.
? الكثافة النوعية: تتفاوت قيمة الكثافة النوعية بين الزيوت الطيارة باختلاف مصادرها، لكن معظم الزيوت العطرية تكون كثافتها أقل من الكثافة النوعية للماء، لذا يطفو الزيت العطري على سطح الماء.
طرق استخلاصها
كان للعلماء العرب والمسلمين القدامى السبق في علم استخلاص الزيوت العطرية والانتفاع من فوائدها العلاجية. فلقد كان الطبيب المسلم ابن سينا أول من قام بابتكار وتطوير هذا العلم حيث ابتكر طريقة التقطير لاستخراج الزيت الصافي المركز ليضعه في قوارير صيدلية لاستعماله في معالجة أمراض عدة. وكان العالم الكيميائي جابر ابن حيان أول من فصل مادة الكحول عن طريق التقطير لاستخدامها في تخفيف كثافة الزيوت العطرية قبل استخدامها موضعيا على الجلد.
وفي القرن العشرين، كان الكيميائي الفرنسي رينيه غاتيفوس أول من قام بتطبيق المنهج البحثي الحديث في استكشاف خواص الزيوت العطرية الطبية وطرق استخلاصها. وخلال إحدى تجاربه المختبرية، احترق جلد يده بحمض كيماوي فوضعها في زيت ورد الخزامى (اللافندر) وكانت دهشته شديدة عندما لاحظ أن يده تعافت سريعا من الحروق.
وعبر الأزمان، تطورت طرق استخلاص الزيوت العطري. ومن أهم هذه الطرق:
? بالتقطير.
? بالمذيبات العضوية.
? بالاعتصار الهيدروليكي.
? بالتحلل الإنزيمي.
كيف تؤثر؟
السؤال البدهي الذي يتبادر إلى أذهان كثيرين هو: كيف تحدث التأثيرات الإيجابية للزيوت العطرية؟
والإجابة ببساطة هي أنه عند استنشاق أبخرة الزيوت العطرية فإن جزيئات معينة منها تصل إلى الحويصلات الهوائية في الرئتين، ومن هناك تنتقل مع الأكسجين إلى الدم، ثم إلى أعضاء الجسم المختلفة حيث تبدأ في إحداث تأثيراتها العلاجية أو التطيفية. أما عند ملامسة الزيوت العطرية للجلد، فإن مسام الجلد تمتص بعض الجزيئات التي تنتقل عن طريق الدم إلى بقية أعضاء الجسم.
وهناك نظرية علمية تفسر تأثير الزيوت العطرية العلاجية من خلال الشم. فعند استنشاق الزيوت العطرية، يتسبب ذلك في تنشيط النهايات العصبية الأنفية، فتقوم بدورها بنقل رسائل عصبية إلى المخ عن طريق عصب الشم، فيؤدي ذلك إلى تنشيط الغدة النخامية التي تتحكم في وظائف الغدد الصماء، فتكون نتيجة ذلك أن تفرز تلك الغدد هرمونات معينة تؤثر إيجابيا وعلاجيا في وظائف أعضاء الجسم.
استخداماتها... علاجياً
منذ قديم الزمان، شاع استعمال الزيوت العطرية في المعالجة بسبب قدرتها على النفاذ بدرجة فائقة خلال طبقات الجلد نظرا لصغر حجم جزيئاتها، مما يجعلها قابلة للامتصاص إلى تيار الدم. وقد ثبت بحثيا وعلميا أن لأغلب تلك الزيوت العطرية مفعولا مطهرا يقضي على البكتيريا والجراثيم، ومزيلا للمرض والعدوى. لكن ينبغي التحذير من تعاطي الزيوت العطرية عن طريق الفم أو استخدامها موضعيا على الجلد مباشرة من دون تخفيف، إذا ان ذلك قد يتسبب في إحداث آثار جانبية غير مرغوبة.
وفي التالي بعض طرق استخدام الزيوت العطرية علاجيا واستجماميا:
? يفيد استنشاق زيت اللافندر وزيت الكافور لمعالجة نزلات البرد والأنفلونزا، ويكون الاستنشاق بإضافة بضع قطرات من الزيت في وعاء به ماء مغلي. ويقوم المريض بالانحناء فوق الوعاء مع وضع منشفة فوق رأسه مع التنفس العميق من خلال الأنف، وهذا التنفس يساعد على فتح الممرات الأنفية، بينما يساعد التنفس العميق من خلال الفم في علاج تقرحات الحنجرة.
? تُستخدم كمادات زيت الورد وزيت اللافندر لمعالجة التهاب الثدي عند النساء المرضعات.
? يُستخدم زيت العرعر لمعالجة أعراض الروماتيزم والأكزيما، وذلك بإضافة 4 قطرات من الزيت إلى نصف كوب من زيت اللوز، ويدلك الجلد المصاب برفق عدة مرات يوميا، ويمكن إضافة 8 قطرات من الزيت النقي إلى ماء الاستحمام الدافئ. وإذا أضيفت قطرات منه مع زيت فول الصويا فإنها تنفع في معالجة التهاب المثانة وآلام الحيض عند التدليك أسفل المعدة.
? تدليك الجسم عموماً بزيت اللافندر يساعد الجلد على امتصاص الزيوت العطرية، كما أنه وسيلة ناجحة لتنشيط الدورة الدموية وتدفق السائل الليمفاوي وإراحة العضلات المرهقة ومساعدة الجسم بالتخلص من السموم وتسكين الألم في بعض مناطق الجسم.
? للاسترخاء والاستجمام، تضاف قطرات من زيوت عطرية مركزة إلى ماء حمام دافئ ويجلس فيه الشخص لمدة حوالي 15 دقيقة.
? تضاف قطرات من زيوت عطرية معينة إلى إناء به ماء ساخن ويوضع في الغرفة حتى يتم استنشاق البخار المعطر المتصاعد لتحقيق تأثير معين كالانتعاش أو زيادة التركيز.
? تبخير أو رش زيوت عطرية معينة في هواء الغرفة يساعد في القضاء على الجراثيم، ويفضل هنا استخدام زيت شجرة الشاي، ويمكن تحقيق ذلك بوضع قطرات من الزيت في إناء يحتوي على ماء مغلي، أو بوضع قطرات من الزيت على المصباح الكهربائي قبل إضاءته.
? يتم تناول بعض الزيوت العطرية فموياً لمعالجة المشاكل وطرد الديان المعوية، كاستخدام زيت الورد أو البابونج أو الزعتر مضافا إليه السكر أو العسل.
? تُستخدم زيوت عطرية كإضافات إلى مشروبات لضبط الاضطرابات الهرمونية والعادة الشهرية، وتستخدم بعض الزيوت كغرغرة لتلطيف التهابات الحلق والبلعوم واللوز وذلك بإضافة قطرات إلى نصف كوب من الماء الساخن والتغرغر به.
وهناك وصفات زيوت عطرية شائعة الاستعمال كعلاجات شعبية آمنة نسبيا ومن السهل الحصول عليها أو تحضيرها منزليا بشرط استخدامه في حدود احتياطات السلامة. ومن بين أبرز تلك الزيوت نذكر التالي:
? زيت اليانسون (الأنيسون): فعال موضعيا في القضاء على قمل الرأس.
? زيت البابونج: ينشط الدم، ويخفض حرارة الجسم المرتفعة.
? زيت البردقوش: يعالج اضطرابات الدورة الشهرية.
? زيت الريحان: مفيد موضعيا وفمويا لتغذية الشعر والجلد وتقويتهما.
? زيت الزعتر: يكافح ويطرد الديدان المعوية.
? زيت القرنفل: مطهر للفم، ومسكن لآلام الأسنان، ومقو للثة.
? زيت اللوز: يلطف أعراض البواسير والأكزيما، ويفتت الحصوات البولية، ويسكن آلام الأذن الوسطى، ويلطف الحروق، ويكافح النمش والكلف.
مخاطر... محتملة
صحيح أن الزيوت العطرية هي سوائل عضوية طبيعية، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أي مخاطر من وراء استخدامها. ويجب توخي الحذر عند استخدام تلك الزيوت العطرية عن طريق الشم، أو موضعيا على الجلد، أو فمويا من خلال القناة الهضمية.
وبشكل عام، ينبغي دائما مراعاة كمية الجرعة التي يتعاطاها الشخص في كل مرة، حيث إن الإفراط قد يجلب نتائج عكسية غير مرغوبة. وعند الرغبة في استنشاق أبخرة تلك الزيوت، ينبغي مراعاة اعتبارات أمراض الجهاز التنفسي، إذ إن المصابين بأمراض تنفسية معينة قد يصابون بمضاعفات وأعراض عكسية بسبب أبخرة بعض الزيوت. وموضعيا، يوصى دائما بعدم استخدام الزيت العطري بشكله الخام أو المركز على الجلد مباشرة، بل يستحسن دائما تخفيفه من خلال مزجه مع زيوت تلطيفية أخرى وسيطة أو مع مرطب (كريم) للبشرة.
مصادر غير نباتية... لإفرازات عطرية
في التالي نورد أمثلة من إفرازات عطرية طبيعية لا يتم استخلاصها من نباتات، بل من مصادر حيوانية وأخرى صخرية:
• العنبر:
لا تشعر بالقرف إذا علمت أن عطر العنبر الذي يُعتبر من أغلى أنواع العطور يُصنع من «قيء» نوع معين من الحيتان! فالعنبر هو في أساسه مادة شمعية تفرزها معدة نوع معين من الحوت الأزرق (حوت العنبر) لتحاصر الشوائب التي يلتهمها مع طعامه. وعندما تتهيج معدة الحوت الأزرق، فإنه يتقيأ تلك المادة الشمعية على هيئة كتلة رمادية أو بيضاء أو صفراء أو سوداء، لتطفو على سطح البحر. ويتم اصطياد ذلك «القيء» الثمين لاستخدامه في تحضير وتصنيع عطور العنبر.
وأجود أنواع العنبر هو الأشهب القوي، ثم الأزرق، ثم الأصفر. أما أقل أنواعه جودة فهو الأسود.
• المسك:
يستخرج عطر المسك من أنواع معينة من حيوان الأيل، وتعرف بـ«أيائل المسك». ويوجد المسك في بطن ذكر الأيل داخل غدة على هيئة كيس بحجم ثمرة البرتقال. وبعد استئصال هذه الغدة من جوف ذكر الأيل، يتم تجفيفها في الشمس ثم نقعها في زيت ساخن قبل الشروع في استخلاص المادة العطرية منها. والمسك الخام الجيد يكون مادة ملساء جافة ذات لون أرجواني قاتم .
ومن المفارقات أن المسك الخام تكون رائحته غير محببة، لكنها تصبح زكية وطيبة عند تخفيفها بنسبة معينة.
• المسك
الصخري البارد:
يستخرج هذا النوع من المسك الصخري من جبال شمال أوروبا، حيث يتكون بصورة طبيعية عندما تتفاعل بعض أنواع الصخور مع الثلوج المتراكمة على تلك الجبال، فينتج عن ذلك التفاعل نشوء بلورات وتكتلات صخرية هشة بيضاء مشوبة بالصفرة وذات رائحة عطرية زكية وشذية.