سقوط قطعة من لبنان

تصغير
تكبير

لا حاجة الى الكثير من التفكير والتعمق في الاحداث للوصول الى خلاصة فحواها ان توقف «دار الصياد» عن اصدار مطبوعاتها ابتداء من اليوم الاثنين الواقع فيه الاوّل من أكتوبر 2018 يعكس الحال التي آل اليها بلد اسمه لبنان. هناك موجة تصحّر تضرب لبنان (لبنان الأخضر سابقا).
ليس توقف صحيفة عريقة مثل «الانوار» ومجلة عمرها من عمر الاستقلال مثل «الصيّاد» ومجلة فنيّة مثل «الشبكة» سوى تكريس لواقع جديد في بلد كان الى ما قبل فترة قصيرة ينبض بالحياة والحيوية والأفكار الجديدة فاذا به في السنة 2018 لا يستطيع حلّ مشكلتي الكهرباء والنفايات اللتين يعاني منهما. هناك بلد كان مطاره في ستينات القرن الماضي احد اهمّ مطارات العالم، فاذا به في أيامنا هذه اقرب الى مطار بائس في دولة من دول العالم الثالث في اقصى مجاهل افريقيا.
الأكيد ان هناك أسبابا مختلفة، طابع بعضها عائلي، جعلت القيمين على «دار الصيّاد» يلجأون الى التدبير الذي لجأوا اليه الذي يعني الاستعانة بمقولة: آخر الدواء الكيّ. لكنّ مثل هذا التدبير ليس سوى سقوط لقطعة اخرى من لبنان في وقت يشهد البلد انهيارا مبرمجا لمؤسسات الدولة. لعلّ آخر دليل على الانهيار، ذلك العجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد تكليف النواب الرئيس سعد الحريري تولي هذه المهمّة مباشرة بعد انتخابات السادس من مايو الماضي، أي قبل نحو خمسة اشهر تقريبا.


هناك إصرار على الهدم والتدمير بدل ترك الرئيس المكلف يؤدي المهمّة المطلوبة منه، وهي مهمة تبدو ظاهرا في غاية السهولة لكنها تعكس عمق الازمة اللبنانية ورغبة اطراف معروفة على رأسها «حزب الله» في تغيير طبيعة النظام القائم منذ إقرار اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الداخلية في العام 1989. يكفي طرح سؤال واحد للتأكد من ان مثل هذه المهمّة، مهمة سعد الحريري، ليست مستحيلة. هذا السؤال هو أي حكومة يحتاج اليها لبنان في مثل هذه الايّام والظروف؟ الجواب انّه يحتاج الى حكومة تضمّ شخصيات تتمتع بكفاءات معيّنة... وما اكثر الكفاءات في لبنان. لماذا كلّ هذا الإصرار على منع الرئيس المكلف القيام بالمطلوب منه من اجل انقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات وقطاعات حيوية؟ من الواضح انّ هناك قوى تعمل من اجل اخذ لبنان الى الهاوية. ليس القضاء على الاعلام اللبناني سوى جزء من هذه الحملة التي تستهدف البلد ككلّ وصولا الى افقاره، في كلّ مجال، كي يسهل التحكّم به. هذه الحملة ليست بنت البارحة اذا اخذنا في الاعتبار اضطرار جريدة متميّزة مثل «السفير» الى التوقف عن الصدور في اليوم الأخير من العام 2016، مع ما يعنيه ذلك من خسارة لفكرة التنوّع التي تشكل جزءا لا يتجزّأ من الصيغة اللبنانية ومن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والفنّية في بلد مثل لبنان.
اذا اخذنا في الاعتبار ما تعرّض له لبنان في السنوات الخمسين الأخيرة، أي منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 وحتّى قبل ذلك، نكتشف ان صمود الاعلام طوال هذه الفترة كان معجزة اكثر من ايّ شيء آخر. يبدو اننا بلغنا حاليا مرحلة نهاية هذا الصمود البطولي للاعلام اللبناني الذي يعاني اكثر من أي وقت من تقليص دور البلد وتحويله اسيرا لدى «محور الممانعة» الذي تمثله على الأرض ميليشيا مذهبية لا همّ لها سوى ان يكون لبنان مجرّد منصة إعلامية لإيران وادواتها الاقليمية. لذلك، لا نجد ازدهارا في بيروت سوى للاعلام المرتبط بطريقة او بأخرى بالمشروع التوسعي الايراني، ان عبر صحف معيّنة او عبر فضائيات معروف انها تبث من مواقع محدّدة بحماية من «حزب الله» ولا هدف لها سوى الإساءة الى العلاقات العربية للبنان.
ثمة معلومات خاطئة عن الاعلام اللبناني وعن الصحف والمجلات اللبنانية تحديدا. هذه الصحف والمجلات، من بينها صحف «النهار» و«الانوار» و«الحياة»، ومجلة مثل «الحوادث» (سياسية)، و«الشبكة» (فنّية)، كانت قادرة قبل العام 1975 على إيجاد توازن بين الدخل والانفاق. كان لبنان سوقا إعلانية كبيرة. صحيح انّ مؤسسات إعلامية كبيرة كانت تحصل على مساعدات خارجية، لكن الصحيح أيضا ان هذه المساعدات كانت بمثابة دخل إضافي يذهب في معظمه الى صاحب المؤسسة او بعض العاملين فيها.
ليس توقف «الانوار»، مجرّد توقف لصحيفة كانت في عز ايّام الصحافة اللبنانية تنافس «الحياة»، قبل اغتيال كامل مروّة في 1966، ثم «النهار» التي صعدت الى موقع الصحيفة الاولى لبنانياً وعربياً في أواخر الستينات ومنتصف السبعينات من القرن الماضي. كانت «الانوار» في البداية جريدة جمال عبد الناصر في لبنان. كان صاحبها سعيد فريحة ناصريا حتّى العظم، لكنه عرف مع مرور الوقت ومع انتهاء زمن الناصرية كيف يحافظ على جريدته ويبني مؤسسة كبيرة تبدو حاليا في طريق الزوال.
ليس توقف منشورات «دار الصيّاد» حدثا عابرا. ما حصل يشير الى ان الحملة على الاعلام اللبناني ادّت غرضها الى حدّ كبير. كان مطلوبا في كلّ وقت اسكات بيروت. ما نشهده حاليا هو خطوة أخرى على هذا الطريق. ثمة حاجة بين وقت وآخر الى العودة الى الماضي القريب من اجل فهم لماذا هذا الإصرار على خلق بيئة لبنانية لا تتحمّل أي اعلام متنوّع خارج عن سلطة «محورالممانعة» وخطها. ففي أواخر العام 2003، استقبل رئيس النظام السوري الرئيس رفيق الحريري، في حضور ثلاثة ضباط فقط هم غازي كنعان (وزير الداخلية) ورستم غزالي (مسؤول المخابرات في لبنان) ومحمد خلوف الذي كان يشغل موقع رئيس المراقبين السوريين في لبنان. طلب الأسد الابن من الرئيس الحريري بعدما وجه اليه كلاما مهينا ثلاثة أمور. كان بين ما طلبه بيع أسهمه في جريدة «النهار» فورا. رضخ رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك لتهديدات بشّار وباع أسهمه في «النهار»، اقلّه شكلا، بعد عودته الى بيروت من دمشق.
بعد اقلّ من سنتين اغتيل رفيق الحريري واغتيل بعد ذلك سمير قصير ابرز المعلقين والكتاب في «النهار» ثم جبران تويني وذلك كي لا تقوم للجريدة قيامة في يوم من الايّام.
لا تزال «النهار» تصدر رغم الازمة المالية التي تعاني منها، لكن المطلوب تحقّق ولم يعد للجريدة، التي لا تزال تقاوم، أيّ نبض سياسي. ترمز «النهار» حاليا الى ما حلّ بالاعلام اللبناني والى ما يجب ان يكون عليه هذا الاعلام. جاء احتجاب «الانوار» التي لم يعد احد يسمع بها في السنوات الأخيرة، لولا مقالات الهام فريحة ورفيق خوري، لاستكمال المشهد الذي افتتح بدخول «قوات الردع» العربية التي كانت في معظمها سورية الى لبنان في أواخر العام 1976 وما تلا ذلك من فرض للرقابة على الصحف.
هل بات في الإمكان الكلام حاليا عن نعي الصحف اللبنانية خصوصا والاعلام اللبناني عموما. من السابق لاوانه الذهاب الى هذا الحد في التشاؤم ولكن في ظلّ الانهيار اللبناني الكبير الذي لم يكتمل بعد صار كلّ شيء ممكنا.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي