«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»... سلسلة مفتوحة تستكشف دهاليز الاعتلالات السيكولوجية والسلوكية
النفس البشرية ... شريكة الروح في البدن
مما يدل على عظمة وتعقيد تكوين النفس البشرية أن الله سبحانه أقسم بخلقه لها في قوله: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (سورة الشمس- الآيتان 7 و8).
وعلم النفس بشتى مباحثه ومدارسه ونظرياته، يؤكد ذلك الأمر إلى درجة أصبح من المؤكد معها أن تشخيص ومعالجة الأمراض البدنية لدى الإنسان أسهل بكثير من تشخيص ومعالجة الأمراض والاضطرابات النفسية.
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من 3 مكونات أساسية هي: النفس والجسد والروح، وهذه الأخيرة لا تمرض. ومثلما يمرض الجسد أحيانا، فإن النفس تمرض أيضا. ومثلما أن أمراض الجسد تكون إما عارضة أو مزمنة فإن أمراض النفس تكون كذلك أيضاً. وعادة يطلق مصطلح «مرض نفسي» على الاعتلالات النفسية المزمنة والحادة، بينما يطلق مصطلح «اضطراب نفسي» على الحالات العابرة والطفيفة نسبياً.
على هذه الأرضية، سنسعى من خلال هذه السلسلة المفتوحة إلى استكشاف دهاليز أمراض اضطرابات النفس البشرية، لكن ذلك لن يكون من منظور ديني ولا من منظور الفجور في مقابل التقوى أو طاعة الله في مقابل معصيته، بل سنتناولها أكاديمياً من زاوية تحليلات ونظريات علم النفس.
فإلى أولى حلقات هذه السلسلة...
تصنيفات نفسية
علمياً، هناك تصنيفات متعددة ومتنوعة للاعتلالات النفسية ما بين أمراض واضطرابات. فمثلاً، بينما يتم تصنيف الاكتئاب النفسي المزمن ضمن قائمة الأمراض، فإن القلق الذي يصل إلى درجة التأثير سلبياً على تفكير أو سلوكيات الشخص يتم تصنيفه كاضطراب نفسي قابل للزوال.
فقد تظهر الاضطرابات النفسية في شكل الخوف الرُّهابي من أشياء معينة (حالات الفوبيا)، أو القلق العام، أو القلق الاجتماعي، أو الهلع غير المبرر، أو الوسواس القهري، أو ضغط ما بعد الصدمة.
ومن الممكن أيضاً أن تضطرب جوارح نفسية ووجدانية (كالعواطف والحالة المزاجية). واضطرابات المزاج التي تنطوي على حزن شديد ومستمر غير معتاد أو سوداوية أو يأس تعرف باسم «الاكتئاب الشديد» أو «الاكتئاب الإكلينيكي».
وهناك اضطراب المزاج ثنائي القطب (يعرف أيضا بـ«الاكتئاب الهوسي») الذي تعتري المصاب به نوبات مزاجية أو عصبية حادة تكون مصحوبة عادة بتلاطم في الأفكار وسرعة في الكلام على نحو غير طبيعي. ومثل هذه النوبات تصنف ضمن حالات الهوس.
وقد تصاب النفس باضطرابات ذهانية في نماذج المعتقدات والإدراك. وتشمل الاضطرابات من هذا النوع الفصام (أو «الشيزوفرينيا») والاضطراب الهذياني. ويندرج في هذا الاطار ذاته «الاضطراب الوجداني الفصامي».
وفي علم التصنيفات النفسية، هناك أيضا اضطراب الشخصية الاضطهادية (البارانوية)، واضطراب الشخصية الانعزالية، واضطراب الشخصية فصامية النزعة، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، واضطراب الشخصية الهستيرية، واضطراب الشخصية النرجسية، والاضطرابات ذات الصلة بالخوف (مثل: الشخصية التجنبية والشخصية الاعتمادية).
بل إن الاضطرابات النفسية قد تمتد إلى الأكل، وذلك من خلال وقع الشخص تحت اهتمام غير طبيعي ويصل إلى درجة الهوس بأمور تتعلق بالطعام والوزن. ويندرج ضمن هذه الاضطرابات: فقدان الشهية العصبي، والشره العصبي، والإفراط في تناول الطعام.
وتستمر القائمة التصنيفية الطويلة لتشمل أيضاً اضطرابات النوم والاضطرابات الجنسية، واضطرابات الهوية الذاتية والذاكرة والوعي العام التي تجعل المصابين بها غير منسجمين مع أنفسهم ومع البيئة المحيطة بهم، وهؤلاء يتم تصنيف حالتهم في خانة «اضطراب الهوية الانفصالي». أما اضطرابات الذاكرة أو الاضطرابات المعرفية فتشمل فقدان الذاكرة وبعض أنواع خرف الشيخوخة.
أما بالنسبة لبعض الاضطرابات والأمراض التي تتسبب في ظهور أعراض أمراض عضوية ولكنها في الحقيقة نفسية المنشأ والمنبع، فإنها تُصنّف ضمن فئة «الاضطرابات النفسجسدية»، والتي تشتمل عادة على اضطراب التجسيد واضطراب التحويل.
ومن بين التشخيصات التي ما زالت موضع جدل وخلاف بين اختصاصيي العلاج النفسي: اضطراب الشخصية الانهزامية، واضطراب الشخصية السادية، واضطراب الشخصية السلبية العدوانية، واضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي.
في الحلقات المقبلة، سنواصل تسليط مزيد من الأضواء على دهاليز عالم اضطرابات وأمراض النفس البشرية.
اضطرابات وأمراض ... أنواع وأعراض
من علامات الاضطرابات النفسية أو السلوكية أن تظهر على المريض أعراض تشوّش في طريقة التفكير أو انحراف في المزاج أو السلوك على نحو لا ينسجم مع المعتقدات والقواعد الثقافية القويمة المتفق عليها، وتصاحب أعراض ذلك الاضطراب عادة ضائقة شعورية تصيب المريض وارتباكات تعيق ملكاته الشخصية.
وتشمل تلك الأعراض ما يلي:
* سلوكية: كانتهاج سلوك عنيف وعدم القدرة على أداء الوظائف الروتينية اليومية والإدمان على تعاطي مواد تؤثر على المزاج والذهن.
* إداركية: كرؤية أو سماع أشياء لا وجود لها أصلاً.
* وجدانية: كالشعور بالحزن أو الخوف أو القلق.
* بدنية: (مثل حالات الصداع أو اضطراب النوم).
* استعرافية: كصعوبة التفكير بوضوح، والمعاناة من أفكار شاذة، وحدوث اضطراب في الذاكرة.
أما الأعراض الأولى التي تظهر على المريض فإنها تتوقف على نوع ونمط المرض أو الاضطراب النفسي أو الذهني الذي يعتريه. ويجب على الشخص الذي يظهر عليه واحد أو أكثر من تلك الأعراض أن يسعى إلى طلب المعالجة على أيدي مهنيين متخصّصين، وخصوصاً في حال تكرار تلك الأعراض، أو تسبّبها في إحداث ضيق نفسي كبير، أو إسهامها في تعطيل الملكات اللازمة لقيام الشخص بمهامه اليومية.