تأبين / رحل ببساطته... التي لم تطفئها الآلام
حنا مينه... كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين
حياته... لم تكن سنوات تمضي من دون أن يكون لها ذلك الأثر الذي يضع الواقع في صورته المفرطة في الألم والخيبات المتواصلة.
إنما كانت حياته- التي انطفأت عند 94 عاما- مزيجا من الكفاح والنضال، ليس من أجل أن يؤسس لنفسه مكانة أدبية مرموقة، أو وضعا اجتماعيا يتباهى به، أو يكتنز أموالا طائلة يكرسها لراحته، ولكن كفاحه في الحياة جاء مقرونا بالبسطاء الذين التصق بهم، وغرس حياته في أعمارهم، ومن ثم كان خير متحدث عنهم في كل أعماله الروائية، تلك التي ستظل متناغمة مع الحياة في كل حالاتها وأحوالها.
حنا مينه... بعد أن أرهقه الحلم، في إصلاح ما أفسدته البشرية على سطح الأرض، وبعد إنتاج أعمال أدبية كثيرة تناوش الواقع وتفسره، وتدعو إلى الرحمة والبساطة والإحسان... وجد- وقد وصل عمره إلى الخامسة والثمانين فى أغسطس 2008- أنه لا فائدة... فالحياة تسير من السيئ إلى الأسوأ، والصراعات والحروب تأكل الأعمار والآمال، فكتب وصيته التي إن قرأتها، تجد أنك أمام إنسان- كما قال هو عن نفسه- قد شبع من الحياة، وهو في الحقيقة قد تشبّع من ظلامها وبؤسها، ونفاقها، كي تصغر في عينيه هذه الحياة، وتصبح لا قيمة لها، وبالتالي آثر أن تكون وصيته، في جعل الحياة قطعة ضئيلة لا تستحق أي احتفاء، فجاءت وصيته، -التي للأسف- لم نلتزم بها، ونحاول الآن- وقد رحل عنا جسدا وسيبقى روحا ومعلما وحكيما- أن نعطي لأنفسنا فرصة بائسة في استذكار هذا الإنسان الذي لم تكن حياته سوى شموع أضاءت عالمنا، ونحرص الآن أن نحافظ عليها، كي تبقى خالدة في الأذهان.
إننا نواجه خيباتنا في تحقيق الحلم الإنساني المنشود، باستذكار ما قرأناه من روايات حنه، نقف عند معانيها التي اتخذت من البحر والأرض والبشر وكل الموجودات عوالم تتحرك في اتجاهات قد نجهل بعضها، ونفهم بعضها الآخر، إلا أننا نسير في ترنيمته الإنسانية الحية، ونحن مشفقون على أنفسنا وأهلنا وأحبابنا وبسطائنا وفقرائنا من مصير، يندفع بقوة نحو مجهول يتربص بنا.
إننا نقرأ وصيته بحزن، وكأننا لا نريد إلا مخالفتها، كي نتذكر ما هو جميل في حياتنا: «عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي فى أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطا في حياتي».
حنا مينه... الروائي السوري ابن اللاذقية... الذي ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العرب، وأهم الكتاب العرب بل العالميين في مجال الرواية الواعية، هو نفسه الذي عاش طفولته في إحدى قرى لواء الاسكندرون على الساحل السوري، وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى اللاذقية، وهو القائل: «أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين»، وقال عن البحر: «إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب».
إننا نقرأ فلا نشبع: المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الياطر، الأبنوسة البيضاء، نهاية رجل شجاع، عروس الموجة السوداء، المغامرة الأخيرة، النار بين أصابع امرأة... والكثير من الأعمال التي تركها مينه، وهي التي ستظل مخلدة في أذهاننا ما دام في الحياة بارقة أمل للتغيير.