ميلان... في طور البناء على أنقاض «المختبر»
- كان لاعبو النادي يخضعون للدراسة يومياً ويجري تحليل نقاط الضعف في عضلات كل منهم وحركة العين وهبوط وصعود دقات القلب والتنفس
- أُعطي جان بيار ميرسيمان ميزة الـ «فيتو» لدى التعاقد مع اي لاعب بحيث يأتي توقيعه قبل توقيع رئيس النادي
«بإمكانك قيادة سيارة من دون dashboard (أي لوحة القيادة التي تحمل العدادات)، ومن دون معلومات. هذا ما يحصل في كرة القدم. هناك سائقون ممتازون، وسيارات ممتازة. لكن إن كان لديك لوحة قيادة، فإن من شأن ذلك أن يسهّل عليك الأمور. أتساءل لمَ لا يريد الناس معلومات أكثر؟».
هذا ما جاء، قبل سنوات، على لسان البلجيكي جان بيار ميرسيمان، الرئيس السابق للادارة الطبية في نادي ميلان الايطالي، والمسؤول السابق عن «ميلان لاب» (أي مختبر ميلان، وهو مركز للاعداد البدني والنفسي) والذي يتعاون مع جامعات ومراكز أبحاث عالمية لضمان أفضل أداء للرياضيين.
شهد المختبر منتصف 2002 نقلة نوعية عندما تسلّم ميرسيمان مقدّراته، وجرى تناقل تقارير في أوروبا عن أن العاملين فيه منكبّون على وضع برنامج معلوماتي بالتعاون مع جامعة ماساشوستس الأميركية، لتزويد الجهاز الفني للفريق الأول بالفترة الزمنية التي يمكن أن يدرك التعب فيها الفريق الخصم، في ضوء معطيات من مباريات سابقة.
كانت تلك إحدى المعلومات التي رشحت في تلك الفترة قبل ان يجري تداول حقيقة أن القيّمين على «ميلان لاب» كشفوا بأنه من خلال دراسة قفزة اللاعب، يمكن بنسبة 70 في المئة معرفة ما إذا كان سيتعرض للإصابة قريباً.
ليس هذا فحسب، بل ان المختبر ذهب الى دراسة لاعبي ميلان بصفة يومية، وصولاً الى تحليل نقاط الضعف في عضلات كل منهم، مروراً بحركة العين، هبوط وصعود دقات القلب، التنفس، وما إلى ذلك، لدرجة أن ميرسيمان أعطي ميزة الـ «فيتو» لدى التعاقد مع اي لاعب، وقال: «قبل انضمام أي لاعب الى ميلان، كان توقيعي هو المطلوب فقط قبل توقيع الرئيس».
الدليل القاطع على نجاح «ميلان لاب» يتمثل في تتويج «روسونيري» بدوري أبطال أوروبا 2007 بتشكيلة ضمت بمعظمها لاعبين فوق سن الـ 30، ونذكر منهم القائد باولو مالديني (38 عاماً حينها) وفيليبو إينزاغي (33 عاماً) صاحب هدفي فريقه امام ليفربول الانكليزي في المباراة التي انتهت 2-1.
يقال على نطاق واسع في ردهات النادي بأن «هذه الكأس فاز بها ميلان لاب ومركز المعلومات فيه».
ميرسيمان وضع منهجاً للمتابعة البدنية والعضلية والعصبية والطبية، يشمل اختبارات وفحوصات تحدد جهوزية اللاعب، ويشير الى ان هذه السياسة خفّضت الاصابات الناجمة عن المشكلات الفصلية بنسبة 90 في المئة بين 2002 و2006 قياساً عما كانت عليه بين 1998 و2002.
وتقوم «طريقة ميرسيمان» على وصل اللاعب بحاسوب عبر أسلاك في نقاط من جسمه، قبل ان يبدأ العمل في «حجرة التركيز والتفكير».
ويلفت البلجيكي الى ان الحجرة ترصد ردات فعل اللاعب وملاحظات يسجلها لدى النظر الى صور تُعرض على شاشة مثبتة أمامه.
ويقوم طبيب نفسي بمراقبة الانطباعات عبر شاشة خاصة ويرصد الردود ودقات القلب وما إلى ذلك.
فلسفة ميرسيمان مبنية على مواجهة الضغط الذي يتعرض له اللاعب في سبيل تحسين مردوده في الملعب، من خلال تلقينه تقنيات التحفيز وأسس الاسترخاء والتركيز الذهني.
ويشير الى ان العلاج لا يقتصر على ذلك بل يمتد الى المشاكل الخاصة التي قد تواجه اللاعب وتؤثر على أدائه.
بدأت قصة ميرسيمان مع الاصابة التي تعرض لها الارجنتيني فرناندو ريدوندو المنتقل لتوه من ريال مدريد الاسباني الى ميلان في 2000 مقابل 30 مليون يورو.
لم تكد تمر دقائق على تدريبه الاول مع ناديه الجديد، حتى تعرض لاصابة خطرة ابعدته عن الملاعب عامين.
تعلّم ميلان من الدرس، ورفض ان يخسر مجدداً، بسبب الاصابات، لاعباً وملايين اليوروهات، فتعاقد مع ميرسيمان كرئيس للادارة الطبية بغية الوصول الى تكنولوجيا تمكّن النادي من توقع امكان تعرض اي لاعب للإصابة مستقبلاً، وبالتأكيد علاج الاصابات.
أول من مرّ على «ميلان لاب» في عهد ميرسيمان كان الهولندي كلارنس سيدورف الذي عانى أوجاعاً في الفخذ أزعجته طيلة سنة ونصف السنة، ويقول البلجيكي: «لم يكن قادراً على خوض التدريبات براحة. كان يعيش في دوامة. أتذكر يومه الاول في ميلان. قدمت له الدعم. الألم اختفى مباشرة، ما ساعده على اعادة بناء مسيرته».
ويضيف: «ما نقوم به غير مقبول في الطب العادي القائم على الأدلة لكني لا أكترث بذلك. تابعت شخصياً كيف أن العلاج الذي أخضع سيدورف له سار على خير ما يرام».
الثنائية التي شكلها المدرب كارلو أنشيلوتي وميرسيمان فعلت فلعها، فقد توج ميلان في تلك الحقبة بالكثير من الألقاب، تحديداً في السنوات العشر الاولى من الالفية الثانية.
في تلك الحقبة، أصبح لاعبو الفريق أقل عرضة للاصابات، كما ان عدد تلك التي تقع من دون احتكاك تضاءل جداً، وكان بإمكان ميلان ان يقحم أفضل تشكيلة لديه في كل المباريات.
اللافت في المختبر أنه كان يعمل على تحاشي الاصابة بدل إيجاد العلاج فقط، على شاكلة جرعات التطعيم التي يحصل عليها الاطفال. كل لاعب كان يخضع للاختبار مرة كل 15 يوماً فتوضع الارقام وتُجمع المعلومات ويتدخل الكومبيوتر وتخضع كل معلومة للمقارنة.
يقول ميرسيمان: «كنت أراقب لكن العملية، في الواقع، خضعت لعلماء الرياضيات والمهندسين».
اعتاد ميلان جلب لاعبين في الثلاثين من العمر على اعتبار أنهم يكونون في قمة العطاء، ونجح النادي في رهانه على الكثير من هؤلاء، بينهم البرازيليان كافو ورونالدو والانكليزي ديفيد بيكهام الذي قال عنه ميرسيمان: «هو احد اكثر الاشخاص المثيرين للاهتمام الذين التقيتهم. عندما انضم الى النادي على سبيل الاعارة، قيل له بأنه قادر على اللعب حتى سن الـ 38، وقد التزم بما قيل ولعب حتى الـ 38».
يعود الفضل أيضاً الى المختبر في جعل أندريا بيرلو يقدم مستوى جيداً في منتصف الثلاثينات من عمره.
الحقبة الذهبية لـ «ميلان لاب» بدأت بالأفول برحيل انشيلوتي أولاً، وبارتفاع تكلفة الاختبارات ثانياً.
في العام 2010، رحل ميرسيمان، وكان له تصريح في 2013 قال فيه: «أوقفوا المختبر قبل 3 سنوات. ابقوا على القسم البدني منه وليس الطبي. وقد وصل عدد الاصابات خلال السنتين الماضيتين الى اكثر مما عشناه في السنوات الثماني قبلهما»، وأردف متحسّراً: «عندما تسير الامور بشكل جيد، تعتقد بأنه بإمكانك أن تخفض النفقات (الموازنة السنوية كانت تقدر بـ 205 ملايين يورو). اضطر ميلان الى بيع الكثير من اللاعبين مثل (السويدي زلاتان) ابراهيموفيتش و(البرازيلي ألكسندر) باتو. اليوم هناك مختبر بالاسم فقط».
قبل ايام، عاد أسطورة ميلان مالديني إلى النادي إداريا، في مركز مدير التطوير الرياضي الاستراتيجي، في ظل ورشة نهوض يعيشها «العملاق اللومباردي»، بعد فترة انتقالية مر بها العام الماضي إثر بيعه من مالكه السابق سيلفيو بيرلوسكوني إلى شركة صينية، ثم انتقال ملكيته إلى صندوق إليوت الأميركي للاستثمارات.
وسبق عودة مالديني إلى ميلان قبل عشرة أيام، تعيين لاعبه ومدربه البرازيلي السابق ليوناردو مديراً تقنياً.
كما ضم الفريق الأرجنتيني غونزالو هيغواين وماتيا كالديرا من يوفنتوس.
ويبقى القول بأن أحد اسباب قوة ميلان في السنوات الماضية وتحقيقه الالقاب كان يتمثل في منح ميرسيمان القوة لشراء أو بيع اللاعبين، وقد نجحت تلك السياسة.
وها هو ميلان نفسه يسعى الى العودة لاحتلال القمة الإيطالية، وربما الأوروبية.
قد يُكتب له النجاح في ما هو مقدم عليه، وإن فشل، يبقى سؤال: هل يسلك طريقَ عودةٍ أخرى الى ميرسيمان... ومختبره الشهير؟