مثقفون بلا حدود
الكويت في قلب شاعر (2)
في عجلة من أمري، ألملم أشلائي، وأستجمع نفسي، أحاول أن أثـبّـت عقلي لكي أصدق القدر، وأعيش واقعَ ما سمعت... مسرعا... متعثرا ساعة، مستقيما ساعة أخرى... أولادي أمام عيني، أحدهم بيدي، أسوقهم كما تساق الحُـملان، تصورت للحظة بأنهم سوف يسرقون مني، نزلت من شقتي ورأسي كبرج مراقبة الطيران يلتف في كل الاتجاهات، متفحصا الأرجاء بدقة متناهية، فتحت باب سيارتي وأدخلت أولادي، قدت سيارتي قاصدا بيت والدي، ومازالت رعشة لعينة تسيطر على سكنات خدي الهامل، أرى الناس سكارى وما هم بسكارى، أراهم وقد تجمعوا على محطات وقود السيارات، وأمام الجمعيات التعاونية، عمّت الفوضى الشوارع، الكل يجري على غير هدى يطيشون طيشا، وبعد كر وفر مع هذه الفوضى وصلت إلى بيت والدي، طمأنينة الوصول خالطتها مخاوف الأخبار.. الأولاد.. يتقافزون إلى بيت جدهم، خطوات بطيئة وشوق للدخول، هناك ضجيج... نعم... أسمعه... لكنه ليس بكاء... نعم. الحمد لله... مهلا... لأستوضح الأمر... تمالك نفسك... لا تنسى بأنك الأخ الأكبر... نعم أنا كذلك... دخول... مباغتة... عويل... عيون حائرة... أين هم؟
نعم... السؤال لي من عيون أمي الشاخصة... أين هم يا فهد؟ أين أخوتك؟... ماذا أقول؟ ها هي جاثمة لا هي واقفة باقتدار ولا هي جالسة باسترخاء... إنهم تسعة أولاد... أين هم؟... هل سيموت منهم أحد؟ هل سيؤخذ منهم أسير؟ عيونها تتطلع لإجابتي، أسئلة كثيرة لا بد أن أجيب عنها، وأنا أتمم عليهم بقلبي، ها هو صباح.. الحمد لله، ها هو أنور... الحمد لله، ها هو نواف... الحمد لله، ها هو بدر... الحمد لله. خليل مجند وهو في المعسكر... يا رب سترك، ناجي رئيس عرفاء في دوريات العاصمة... يا رب سترك، فتحي رئيس عرفاء في المباحث الجنائية... يا رب سترك، عماد رقيب في القاعدة البحرية... يا رب سترك... يا رب سترك:
أنا ما كنت يوما بناء صُـلبا
في وجه الخطوب
بل كنت صدرا حنونا
قد ضم كل القلوب
ورئدا يتحرى بالحب
كل الدروب
(شعر عبدالله العتيبي شاعر الوطن والوطنية).
نعم يا طائر البشرى إنها الأخوة، إنه الدم، إنهم ظهري وسندي وعضدي، إنهم وسادة رأسي، إنهم ستري وغطائي، إنهم ضلوعي حامية صدري، إنهم أنفاسي وقت اختناقي، إنهم مفاصل عظامي وسلوة عيشي وأيامي...
أبي يتشبث بي، يعصرني... اذهب وابحث عن أخوتك... حاضر... سأفعل... لا. لا... انتظر قل لهؤلاء أن يتحلوا بضبط النفس... سأفعل يا أبتي لا تقلق: ابعد السلاح يا صباح ابعده ليس الآن... ليس الآن... وأنت يا نواف لا تذهب تريث... تمهلوا... لتكونوا بالقرب من عيني.
خطى تائهة، عيون حائرة، قلوب منكسرة، أوجاع متجذرة، عقول سارحة، دقائق مبعثرة... زمن ضائع... أنادي بأعلى صوتي: أين جهاز التلفاز؟
لا داعي يا بني... سيطروا على مبنى الإذاعة... قطعوا الإرسال... فصلونا عن العالم.
لا عليك يا أبي... إن الله مع الصابرين... الله معنا... وسوف يسخـّـر جنوده لنصرتنا.
مرّت ساعات الحزن والثبات، اشتد القصف المدفعي في وقت العصر، قوات الحرس الوطني الكويتي أبلت بلاء حسنا... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
نحن أبناء الزمان البكر والدهر الصبي
خالد إخلاصنا للأرض للإنسان للشعب الأبي
شعر عبدالله العتيبي
أرض عشقناها
بيضاء كالطهر
إنا ملأناها
شوقا إلى الفجر
غمامة كنا
تأتي على العسر
لتزهر الدنيا
في قادم العصر
شعر عبدالله العتيبي
تراجع العدو أمام شراسة رجال الحرس الوطني الكويتي البواسل، ولكنها خيانة الجبناء الذين أكلوا بموائدنا وبصقوا فيها، غدروا بعد عهد قطعوه، طعنوا بعد ميثاق عقدوه، كان عليك أيها البعثي أن تعلن حرب الرجال وأنت الأكثر عدة وعتادا ولا تهين عراق الأشاوس، عراق الرجال الذين رفضوا فعلتك الشنيعة، قبحك الله، هل عجزت أيها البعثي أن تخبرنا بموعد القتال، وأنت الأكثر خبرة وممارسة، ولكنك يا بعثي جبنت عن إعلان حرب الرجال ضد الأخوة الأمناء، فباغت مباغتة الثعالب، وحمت حومة الضباع، أين هو شرف الرجال؟! كنا فقط نريدك أن تكون رجلا عربيا وتخبرنا بموعد الحرب قبل أربع وعشرين ساعة، ليست كثيرة، ولن يسعفنا أحد سوى الله عز وجل، ها هو أبو جهل الكافر المشرك يحاصر بيت النبي صلى الله عليه وسلم بفرسانه، ويرفض مقترحا من أحد الفرسان باقتحام بيت الرسول صلى الله عليه سلم قائلا: «أتريد العرب أن تقول اقتحمنا بيت محمد وانتهكنا حرماته»، ولكن اسمع معي أيها البعثي قول شاعر الوطن والوطنية:
عفو المروءة عاف القوس باريها
والخيل قبل الوغى جزت نواصيها
يا حاشد جيوش الغدر تدفعها
نحو الكويت لقد خابت أمانيها
يا من تجاوزت حق الجار في صلف
سهام حقدك قد طاشت مراميها
يا من غزوت بلادا ما حفظت لها
حق الجوار ولم تذكر أياديها
يا من غزوت بلادا عنك كم دفعت
غوائل الدهر لما قل حاميها
لكن كما قيل والأيام شاهدة
«إن الحماقة أعيت من يداويها»
شعر عبدالله العتيبي
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com
- المصدر: رواية ( الكويت في قلب شاعر- 2 /8 /1990 حتى 26/2/1991)