مثقفون بلا حدود
الجزائر في مؤلفات التونسي محمد صالح الجابري (1 - 3)
كنا نأتي باكرا إلى العمل، ألتقي به وهو يركن سيارته ويترجّل منها: ابتسامة، أناقة، هدوء عالم، حب ثقافي دافئ، حنان علمي فياض. إخلاص وكبرياء وشموخ، نزاهة ومصداقية، ثقة بنفسه وعلمه لا نظير لها، احترام لرتبته الأكاديمية ولمستواه العلمي.
أرى وألمس كل ذلك فيه قبل أن يصل إليّ بخطواته ذاهبا إلى الفندق الأبيض في قلب العاصمة التونسية؛ ليحتسيَ قهوة الصباح كعادته، يقف معي أكثر من نصف ساعة تقريبا، يثري عقلي بأدب وثقافة عالية، يشبعني حنانا لغويا ويسبغ عليّ من الأبوة العلمية بما وهبه الله من علم، ألتفتُ يمينا وشمالا.. أُداري سعادتي خوفا من الحسد و الحقد- لا سيما- الغيرة العلمية التي أقول عنها دائما وأبدا بأنها أشد بطشا من غيرة الزوج على زوجته، ومن الوشاية التي استشرت في عصرنا ومزقت أواصر المحبة وخدشت صفاء السريرة. ومن الغيبة والنميمة التي باتت بين ثنايانا تنخر في عظامنا.
استدعاني ذات مرة لزيارة مكتبه ففرحت بهذه الدعوة كثيرا، وذهبت خائفا وجلا وأنا أمام فارس الأدب المغاربي، دخلت عليه وقبلتُ رأسَه وجلستُ جِلْسةَ تلميذ الابتدائي في أول أيام الدراسة، كان حفياً بي كثيرا، أهداني ثلاثة كتب من تأليفه الأول «الأدب الجزائري المعاصر» وقد كتب عليه بخط يديْه الكريمتيْن العبارة الآتية: عربون وفاء ومودة وإخاء إلى الأستاذ فهد الراشد زميلنا الفاضل 17- 3 - 2009. وهذا الكتاب هو الحائز على الجائزة المغاربية للثقافة 2005، والكتاب الثاني بعنوان «التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس» وقد كتب عليه: الأخ العزيز الأستاذ فهد الراشد المحترم مع المودة الدائمة تونس 17 - 3 - 2009، أما الكتاب الثالث فكان بعنوان «النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس 1900 – 1962» وقد كتب عليه الأخ العزيز الأديب فهد الراشد مع المودة والمحبة 17 - 3 - 2009 تونس، لذا جاز لي أن أطلق على هذه المجموعة بـ «جزائريات الجابري»، التي تقوم على ثلاثة محاور، المحور الأول: «وفاء الجزائريين للبيئة التونسية»، والمحور الثاني: «نضال الرجل الجزائري» والمحور الثالث: «دور المرأة الجزائرية في المقاومة»، كما أطلق عليها الجابري «رحمة الله عليه».
وفاء الجزائريين للبيئة التونسية
يفرد محمد صالح الجابري فصلا خاصا لهذا الوفاء في كتابه (الأدب الجزائري المعاصر) حيث يقول:«وقد خصصت الفصل الثاني من هذا الباب الأول لإبراز مدى وفاء الجزائريين للبيئة التونسية التي عاشوا فيها، وارتبطوا بمختلف أحداثها الوطنية، وشاركوا في نشاطها السياسي والثقافي والاجتماعي» ص 10.
وكم نغبط هذين القطرين الشقيقين (تونس والجزائر)، على هذه الألفة وهذا التعانق الخلاق وهذه المحبة الدافئة، وكم كان بودي أن أرى كل دول الجوار قد تحلت بهذه الخصال التي تحلى بها هذان القطران (الجزائر وتونس)، ولعل ما يدعو للألم فعلا ما حصل من فتنة بين الجارتين الشقيقتين «العراق والكويت»- لاسيما- ونحن أولو رحم ومصاهرة وأبناء عمومة، ونأمُل أن يأتي يوم تندمل فيه الجراح، وتسود المحبة بين الكويت والعراق، بعد أن ذهب نظام البعث إلى غير رجعة، ويعود العراق العظيم مهد الرسل والأنبياء ونبراس العلم ومنبع العلماء، وتعود الكويت لؤلؤة مضيئة للخليج العربي كما عهدناها، ها هو سماحة السيد مقتدى الصدر يقول عن سيدي صاحب السمو بأنه (أمير السلم والاعتدال)، ألا نكبر ذلك في سماحته، حتى مع أشقائنا من الدول الأخرى؛ فهذه الفنانة أحلام الإماراتية تلبي الدعوة وهي مصابة وتجد صعوبة في مشيها؛ تأتي لتشارك في حفل افتتاح استاد جابر الرياضي وتقبل يد سيدي صاحب السمو، ألا نكبر ذلك فيها، ولنا في شيخنا الجليل- رحمه الله- الدكتور محمد صالح الجابري ريحانة تونس وعطر الجزائر خير دليل ووصف، فقد قال: «وأخيرا فإن هذه الصفحات مثلما تنصف الأدباء الجزائريين الذين طمرت الظروف ذكر بعضهم فغمرهم النسيان والإهمال، تنصف كذلك ضمائر الأبرار من جزائريين وتونسيين وقد تآلفت على الإخاء، والوفاء المتبادل، وعانت المحن المشتركة، وخاضت المعارك في جبهة موحدة، وهي بالتالي دليل واضح على عمق روابط الإخاء المكين بين القطرين الشقيقين، وإسهام من المبدعين والكتاب والزعماء الذين عاشوا هذه الحقبة وعملوا بنكران الذات على إرساء اللبنات الأولى للصرح المغاربي المنشود» (الأدب الجزائري المعاصر ص 10).
ويؤكد لنا الجابري- رحمه الله- ذلك حينما قدم أنموذجا رائعا من أبيات شعرية للشاعر الجزائري محمد الصديق بن عريوة، بمجرد تخرجه من الزيتونة وقبل أن يعود إلى الجزائر قال:
- أصافحُ تونس الخضرا اهتماماً
وأودع أهلها أبداً سلاما
- فكم من عاشقٍ يصبُو لحسنها
تعلّله وتمنحهُ ابتساما
- وكم من مؤثر رشفَ العقار
براها عذبةً تشفي السقاما
- وكم من مدلجٍ في داجي ليل
سعى لينبطَ بالصدر الوساما
- ونحن نَحِنُّ للخضراء شوقاً
فدع يا عاذلي فيها الملاما... (الأدب الجزائري المعاصر ص 118).
وتتعانق هذه الأبيات مع أبيات أخرى للشاعر التونسي (مصطفى خريف)، وتمتزج الدماء المغاربية، وتأتلف القلوب في قصيدته «قلب المغرب»التي ذكرها الجابري- رحمه الله- في كتابه (التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس) حيث يقول فيها الشاعر مصطفى خريف:
- حي الجزائرَ فهي قلبُ المغرب
واهتف لفتيتها الكرام ورحّب
- واحملْ من الخضراء نفحةَ ودها
للأقرب الأدنى لها فالأقرب
- من رأس أطلسها الأشمِ لسفحهِ
ولغابهِ ولغيله المتأشب
- وسطعتْ رباه وأينعتْ وتنفست
كتنفس الإصْباح بعد الغيهب
- تلك القوادمُ رنّقت فأجابها
خفقانُ قلبٍ في الجوانح ملهب
- فابسط يداً لبني أبيك مصافحاً
وخذِ المحبةَ، وأعط ِ، وادفع واجذب
- فهم الأغرةُ من سلالةِ يعرب
نفدي بمهجتنا سلالة يعرب... (التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس ص8).
نعم: أبعد هذا الوفاء وفاء ؟!
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com