صوم اللِّسان ... يصون الصحة النفسية والأخلاقية
«الصيام» و«الصوم»... ما من شك في أن لهما فوائد عدة للصحة البدنية والنفسية والروحية، لكن هناك ثمة فرق بينهما كعبادتين أو طاعتين لله.
فالصيام – سواء كان فريضة أو نافلة – هو الامساك والامتناع طواعية لفترة معينة عن الطعام والشراب وسائر المفطرات المادية الأخرى المبطلة لتلك الشعيرة الدينية، بما في ذلك التقيؤ أو فصد الدم عمدا، أو الجماع.
أما الصوم فيعني الإمساك أيضا، لكنه إمساك عن أمور معنوية (غير مادية) طاعة لله، وذلك من خلال التوقف عن استعمال إحدى الجوارح التي لدى الإنسان إرادة التحكم فيها (كجارحة اللسان مثلا).
ولأننا نتنسم في هذه الأيام المباركة نفحات شهر الصيام، فإن حلقة اليوم تسلط الضوء من منظور إسلامي على جوانب من مفهوم «صوم اللسان» من خلال الإمساك عن الكلام عموما أو عن بعضه، سواء كان ذلك كعبادة، أو كنذر، أو كآية من آيات قدرة الله.
الصوم... من منظور عام
من المنظور الإسلامي العام، يشمل مفهوم «الصوم» كعبادة كل أشكال الامتناع لوجه الله عن سلوكيات أو تصرفات تصدر عن إحدى الجوارح، بل وحتى عن المشاعر القلبية السلبية (كالحقد والغل والكراهية والحسد والازدراء والشماتة... الخ).
ويمكن القول إن الصيام لا يكون كاملا إلا إذا زيّنه تاج الصوم بمفهومه الشامل، وهو المعنى الذي تؤكده نصوص قرآنية ونبوية سنستعرضها في ما يلي.
صوم اللسان... انتقائيا
فكرة صوم اللسان عن الكلام المؤذي أخلاقيا ونفسيا واجتماعيا يمكننا أن نراها حاضرة بوضوح في مواضع كثيرة ضمن النصوص الإسلامية المقدسة.
وإذا تأملنا القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فسنلاحظ أنهما يأمراننا بنوع انتقائي من «صوم اللسان»، وهو صوم مطلوب ممارسته على مدار العام، ويضمن الحفاظ على الصحة النفسية لمن يمارسه، كما أنه يحافظ على الصحة المجتمعية ويحميها من تأثيرات الأمراض الأخلاقية.
فالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم قد أوصيا بالصوم «انتقائيا» عن أنواع مكروهة ومذمومة من الكلام الذي يُفسد أخلاق من يقوله، ويؤذي نفس المستهدف به، وينشر الفساد في المجتمع. ومن أمثلة ذلك الكلام الذي ينهي الصوم عنه: قول الزور، وكلام الكذب والإفك، والكلام الفاحش البذيء، وكلام الغيبة والنميمة، وكلام السخرية من الآخرين، وسائر الكلام الذي فيه همز ولمز وتحريض على العداوة والبغضاء والفتنة بين الناس.
وكأمثلة، يتجلى ذلك الصوم الانتقائي في قول الله سبحانه موصيا عباده في مواضع متفرقة من القرآن الكريم: «... وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» و«... وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَ?ذَا حَلَالٌ وَهَ?ذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» و«... وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ» و«... وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا».
والقاسم المشترك بين جميع هذه الأمثلة القرآنية هو أنها تحث على الصوم والامتناع عن الكلام الذي من شأنه أن يفرز افرازات مُفسدة لأخلاق من يقوله، ومؤذية لنفسية من يكون ضحيتها، ومُكدِّرة للعلاقات والأجواء الاجتماعية بشكل عام.
وفي سياق حديث صحيح، رُوي عن النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». وفي هذه الوصية النبوية الشريفة إشارة واضحة إلى أن الصمت (بمعنى الصوم الانتقائي عن الكلام المذموم) هو من علامات وثمار الإيمان. وفي هذا الحديث إشارة ضمنية أيضا إلى أن الإمساك عن الكلام السيئ فيه صيانة لأخلاق المرء من الفساد والانزلاق في الآثام، ولنفسية المستهدفين بذلك الكلام، كما أن فيه حماية للمجتمع من الأمراض الأخلاقية التي تنجم عن مثل ذلك الكلام الذي قد يكون في شكل إشاعة تشهيرية لا صحة لها، أو غيبة، أو افتراء على سمعة إنسان، أو كذب له تداعيات ضارة، أو غير ذلك.
الصوم أصعب من الصيام
في ضوء ما سبق، يتضح أن صوم اللسان (بمفهومه الذي شرحناه) ليس أسهل من الصيام الذي هو إمساك عن الطعام والشراب والجماع. وإذا أردت المقارنة، فجرّب أن تمتنع تماما عن الكلام مع أي أحد لمدة يوم أو يومين متواصلين، شريطة ألا تقضي فترة الصوم نائما أو قارئا أو مشاهدا للتلفزيون. بل جرّب أن تصوم عن الكلام بينما تخالط الناس في بيتك وفي مكان العمل وفي الأسواق وفي المقاهى بينما هم يتخاطبون في ما بينهم. ستجد أنّ لسانك سيكون متحفزا بالفطرة بين الحين والآخر للنطق والكلام، وخصوصا إذا لاحظت في كلام جليسك خطأ تريد تصويبه، أو غموضا تريد الاستفسار عنه، أو رأيا توافق عليه وتريد تأييده.
ومن الأمثلة القرآنية التي توضح لنا أنه من الصعب على فطرة الإنسان إمساك لسانه طويلا ما جاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع العبد الصالح، إذ إن النبي موسى لم يستطع صبرا عن بعض أفعال العبد الصالح من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بلا أجر، فلم يتمالك لسانه في المواقف الثلاثة، ونطق متسائلا ومتعجبا ومنتقدا، على الرغم من أنه كان قد أعطى العبد الصالح وعدا بألا يسأل عن شيء حتى يشرحه له هذا الأخير.
صوم لسان مريم وزكرِيا:
نذر... وآية
الإمساك التعبُّدي عن الكلام هو نوع من صوم اللسان ورد ذكره في القرآن الكريم مرة صراحة ومرات ضمنيا. وبينما جاء الذكر الصريح في قول الله مخاطبا السيدة مريم عليها السلام: «فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَ?نِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (سورة مريم: الآية 26)، فإن الذكر الضمني نجده مثلا في قول الله مخاطبا نبيه زكريا عليه السلام: «قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا» (سورة آل عمران: الآية 41) و«قال آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا» (سورة مريم: الآية 10).
ويقصّ علينا القرآن الكريم قصة السيدة مريم التي أرشدها الله إلى الصوم عن الكلام لمدة يوم كامل بعد أن وضعت مولودها السيد المسيح عليه السلام بمعجزة إلهية من غير أن يمسسها بشر، وجزعت من أن تواجه قومها بهذا الأمر لعجزها عن تفسير وتبرئة نفسها من تهمة الحمل من زنا أو بغاء، فطمأنها الله بمعجزة ثانية إذ أنطق مولودها قائلا: «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْم?نِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا». وفي هذا إشارة إلى أن صوم السيدة مريم العذراء عن الكلام كان نذرا ألهمها الله به، فامتثلت لأمر الله لإيمانها بأنه سيكون في ذلك التبرئة لها ولعِرضها.
أمّا في ما يتعلق بقول الله لنبيه زكريا:«قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا»، فإن صمته عليه السلام عن الكلام لم يكن صوما إراديا مثلما فعلت السيدة مريم العذراء، بل كان علامة ربّانية تلبية لطلبه لتؤكد له أن الله قد استجاب لدعائه بأن يرزقه ولدا رغم شيبه وضعفه، فقال له ربه «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا».
وقول الله تعالى «...أَلَّا تُكَلِّم» لم يكن نهيا لسيدنا زكريا عن أن يتكلم، بل كان إخبارا له بأنه سيصبح غير قادر على أن يتكلم طوال تلك الفترة. ويتضح هذا الأمر أكثر في كلمة «سَوِيًّا»، أي أنّ العلامة الربانية التأكيدية التي ستطرأ عليك موقتا يا زكريا هي أنك ستجد نفسك عاجزا عن الكلام رغم أنّ جهاز الكلام لديك سيكون «سَوِيًّا»، أي سليما بلا أي عطب يعيقه عن النطق.
وهكذا فإن الصوم عن الكلام كان مختلفا في حالة سيدنا زكريا عنه في حالة السيدة مريم. ففي حالة زكريا، كان الصوم آية ربانية أفقده الله بموجبها قدرته على النطق، ولكن من دون أن يطرأ أي سوء على أعضاء جهاز الكلام لديه. وفي حالة السيدة مريم، كان الصوم نذرا ألهمها الله به فامتثلت له.
لكن وجه التشابه يكمن في أن صوم اللسان كان خيرا في كلتا الحالتين.