مثقفون بلا حدود

إنسانية القاصة إستيلا قايتانو ... الجنوب سودانية

No Image
تصغير
تكبير

اليوم أصبح القصّ بجميع فنونه (حكاية، أقصوصة، قصة قصيرة، قصة متوسطة، قصة طويلة، رواية)؛ أصبح علما أكاديميا قائما بذاته، وشكل فن القصة والرواية مناخا خصبا للدارسين وفضاء جاذبا للباحثين عن الدرجات العلمية (ماجستير، دكتوراه، أستاذية)، وهذا ما يجعلنا نذهب على أن القاص أو الروائي أشمل ثقافة وأوسع لغة وأكثر معرفة من الأكاديمي المتخصص، ولعلنا شاهدنا في بعض القنوات الفضائية حينما يستضيف الأكاديمي قاصا أو روائيا، نجد طرح القاص أو الروائي هو الأعلى مستوى من الأكاديمي المتخصص، سواء أكان ذلك في خطابه المتسلسل وسرده المسترسل أم في مرونة لغته وأنسياب ألفاظه، أم في حضور بديهته بإيحائها وأفكاره بسيميائيتها، أم في درايته وشموليته بكثير من مناحي الحياة اليومية والقضايا الوطنية والدولية، مثل مفاصل الدولة ودهاليز السياسة، أم في قضايا المجتمع وما يتصف به من سمات وخصال كريمة، أو عكس ذلك بما شاب وعلق بهذا المجتمع من آفات وفساد نخر في ضلوعه... إلخ.
ذلك أن القاص أو الروائي يتعامل مع فكرة في رأسه، من خلال أحداث متكاملة وشخوص وزمان ومكان، كل ذلك يستوجب معرفة شمولية ودراية تامة بنسج وقائعها بأساليب متنوعة، وثقافات متعددة، وبألفاظ ومصطلحات متخصصة؛ إذن نحن أمام مثقف؛ ولكن ليس كأي مثقف؛ فالمثقف صاحب الكتاب المتخصص بعنوان مستقل وفريد، أو المثقف صاحب المقال الصحافي اليومي والأسبوعي والشهري، يصنف تصنيفات عدة منها (المثقف الموضوعي، والمثقف العقلاني، والمثقف الانتهازي، والمثقف النرجسي، والمثقف الانبطاحي، والمثقف الانطوائي، والمثقف الصدامي... إلخ) أما مثقف القصة أو الرواية ليس له إلا أن يكون مثقفا عضويا، وهو المثقف الاجتماعي الإنساني الذي يتأثر ويؤثر في مجتمعه وبيئته ومحيطه وعالمه كله، فهو لسان حال المقهورين والمظلومين والمهمشين، وهو الساعي خلف العدالة الاجتماعية.
مجموعتنا القصصية لهذا الأسبوع بعنوان (زهور ذابلة) للقاصة إستيلا قايتانو- الجنوب سودانية- تحمل العناوين الآتية (خرائط لعوالم مجهولة، في ليلة قمرية، وليمة ما قبل المطر، زهور ذابلة، رحيل، كل شيء هنا يغلي (1) نحو الموت والسجون، كل شيء هنا يغلي (2) نحو الجنون، بحيرة بحجم ثمرة الباباي)، وضعت في كراس من سبعين صفحة، في طبعتها الثانية 2014م، دار رفيقي للطباعة والنشر، جوبا، جمهورية جنوب السودان.
قصص مخملية دافئة، ممتلئة الحنان، متدفقة العواطف، مرهفة الإحساسات، مشبعة بالمشاعر، ألبستها ثوب الإنسانية من أخمص قدمها حتى قحافة رأسها، جسّدت فيها أدواراً عدة من قاع المجتمع لشخصيات منسية ومهملة تفطر القلب، برعت القاصة إستيلا قايتانو (الجنوب سودانية) في الوصف والتصوير، ونجحت في سبر أغوار الشخصيات، وتفوّقت في حديث النفس (المونولوج)، كانت ماهرة جدا في الالتفاف حول فكرة الموضوع (الثيمة)، نستعرض وإياكم بعض النماذج من مجموعتها القصصية:
• قصة: خرائط لعوالم مجهولة: «لكل شيء بقايا وأوساخ يجب أن تلقى، فنحن قاذورات البشر يجب أن تلقى على الرصيف، أطفال يفتك الرمد بعيونهم ويترك آثار جريمته في شكل إفرازات صفراء مائلة للاخضرار على جانبي العين، كبار السن يتآكلون تحت وطأة الجزام وسائر الأمراض المختلفة، ثياب تجيد فضح العورات أكثر من سترها، أوانٍ سوداء هضمها الزمن، وأعلنت احتجاجها بثقوب» ص 12 و13.
• قصة: وليمة ما قبل المطر: «(أولير) في حجر جدته باكيا مرتعد الأوصال وذاك الشريط الأسود يتقافز أمام عينيه، هذا يعني الموت! موت صديقيه يعني أنهما لن يلعبا معه لعبة الاستخباء، الموت يعني أنهما لن يزجرا الطير من المزارع... ويعلمون الببغاوات الشتائم المصاحبة لأسماء أصحاب مزارع الفاكهة البخلاء الذين لا يسمحون لهم بخطفها، ويغرقون في الضحك عندما يسمعون صاحب الاسم يتبادل الشتائم مع الببغاوات مرشقا إياها بالحجارة» ص 29.
• قصة: زهور ذابلة: «حدثها أنه مريض بمرض وراثي قاتل، وهو الآن يعد أيامه في الدنيا، قالت له: بدلا من أن تحصي أيامك في الدنيا من الأجدى أن تفكر كيف تقضي هذه الأيام، لم لا تقضيها في إسعاد نفسك والآخرين، ثم أشارت إلى الزهور اليانعة قائلة: انظر إلى هذه الزهور، كيف هي يانعة تمنحك أجمل ما عندها لتسعد، رغما إنها ستذبل للأبد بعد ساعات قلائل، لم لا تكون مثلها تترك شذاك لإسعاد الآخرين» ص 37.
• قصة: الرحيل: «ازداد فرحا لأنه يختلف عن كل الجالسين، أتت امرأة أبنوسية اللون، زنجية التقاطيع، واستوائية الملامح، ذات شلوخ في شكل نجمة كثيرة التفرعات تزين خدودها الذابلة، تحمل رضيعا لا يقل عنها نحولا وهزالا، نهض من مقعده مساندا إياها حتى جلست، يداها خشنتان، عمل فيهما الشقاء ما عمل، أحس بأنه يريد توزيع تلك الغبطة التي يشعر بها على كل الركاب، أعاد النظر إليها، شفاه جافة، حزن أصفر معتليا عرش وجهها، عيون منكسرة، أراد معرفة أسباب حزنها ومن ثم إسعادها مهما كلفه ذلك. حدّس أن الطفل مريض ولابد أنها ذاهبة به إلى المشفى، ولا تملك نقودا كافية، في تلك اللحظة تحسس جيبه ليطمئن على نقوده، قال بينه وبين نفسه: سوف أكون معها حتى تعالج الطفل، وسوف يتغذى جيداً وسوف تعود صحته وعافيته...» ص 40 و41.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي