سلسلة ترسم كل حلقة منها خارطة طريق إلى تحسين أحد جوانب الصحة والعافية... بدنياً ونفسياً
كَيفَ... «تشنُق» آلام العُنُق؟
في ظل طبيعة حياتنا الحديثة التي تجعلنا نجلس منكفئين ومتسمرين لساعات طويلة أمام الشاشات، باتت آلام العُنُق من الأعراض الشائعة التي يشكو منها كثيرون.
وتنشأ آلام العُنُق لأسباب متنوعة، بما في ذلك التوتر العضلي، التواء الأربطة، تزحزح فقرات العُنُق، الانزلاق الغضروفي، الضغط على الأعصاب وخشونة المفاصل.
وهناك عادات حياتية غير سليمة تسهم في نشوء أو تفاقم تلك الآلام، خصوصا عادات الوضعيات الخاطئة للجسم سواءً في المكتب أثناء العمل، أو خلال قيادة السيارة، أو ممارسة التمارين الرياضية، أو حتى وضعيات النوم في الفراش ليلًا.
وبطبيعة الحال، قد تتحول تلك الآلام إلى كابوس مزعج في حال تجاهلها وعدم المبادرة إلى معالجة مسبباتها واحتواء تأثيراتها.
وسعيا إلى «شنق» تلك الآلام والقضاء عليها أيا كات درجتها، نستعرض في التالي مقترحات على مسارين يمكن من خلالهما التعامل مع معظم آلام العُنُق سواء كانت حالات عابرة طفيفة أو حالات حادة... أو ما بينهما:
المسار الأول: الاحتواء التلطيفي
الاحتواء التلطيفي يشمل الاجراءات التي يمكنك أن تقوم بها بنفسك من دون الاستعانة بمعالج أو طبيب متخصص. ومن بين أبرز تلك الإجراءات ما يلي:
إراحة العُنُق
يحوي عُنُقك مجموعة معقدة وحساسة جدا من الفقرات والمفاصل والأربطة والأعصاب والعضلات والأوعية الدموية. ولهذا السبب، فإن هناك أسبابا كثيرة قد تؤدي إلى الشعور بآلام في العُنُق عند تحريكه.
وفي كثير من الحالات العارضة (أي غير المزمنة)، يبدأ ألم العُنُق بسرعة عادة ثم يتلاشى بالسرعة ذاتها من دون أي مُعالجة، وذلك لأن جسم الإنسان يتولى مسألة الشفاء ذاتيا. لذا، فعليك في مثل هذه الحالات إراحة عُنُقك تماما لبضع ساعات بحيث تتجنّب القيام بأي حركات تشكل ضغطا على فقرات عُنُقك. ويستحسن تصحيح اي وضعية خاطئة قد تكون سببا في ظهور ذلك الألم.
ولكن لا يُنصح في مثل هذه الحالات باستخدام طوق طبي حول الرقبة، إذ إن ذلك قد يؤدي إلى إضعاف عضلات الرقبة وتقليل حركة مفاصلها، وهو الأمر الذي يؤثر سلبيا على سريان الدم فيها.
التبريد الموضعي
المُعالجة بالتبريد الموضعي هي طريقة فعالة لمعظم الآلام العضلية عموما، بما ذلك آلام عضلات العُنُق. لكن المُعالجة بهذه الطريقة لا تكون ملائمة إلا في الحالات غير المزمنة.
وعند المُعالجة بالبرودة (سواءً أكان باستخدام ثلج أو كيس خضراوات مجمدة)، يوصى بوضع مصدر البرودة على الموضع الأكثر تسببا بالألم في العُنُق. وتؤدي البرودة إلى انقباض الأوعية الدموية الموجودة في المنطقة، ما يخفف الالتهاب والألم من خلال تخدير الألياف العصبية.
وينصح اختصاصيو العلاج الطبيعي باستخدام هذه الكمادات الباردة لمدة 15 دقيقة مرة كل ساعة خلال أول 3 أو 4 ساعات عقب بدء الشعور بألم العُنُق، ثم تقليل عدد المرات تدريجيا بعد أن يخف الالتهاب والألم. لكن ينبغي عدم الضغط بقوة على الكمادات الباردة حتى لا يتسبب الضغط في إعاقة تدفق الدم إلى موضع الألم.
كمادات الحرارة الرطبة
إذا أصبح ألم عُنُقك مزمنًا (أي استمر لأكثر من 3 أشهر) وبدأت تشعر بمزيد من التيبّس في فقرات العُنُق، فعليك أن تتوقف حينها عن المُعالجة بالبرودة والاستعاضة عنها بأسلوب المعالجة بكمادات الحرارة الرطبة مستخدما أكياس الأعشاب التي يمكن نقعها في الماء ثم تسخينها في الميكروويف مثلا واستخدامها كضمادات أو كمادات على موضع الألم في العُنُق. ويوصى باستخدام أكياس المنتجات التي تُخلط مع أعشاب عطرية (مثل الخزامى وإكليل الجبل).
وتعمل هذه الطريقة بشكل جيد على إرخاء توتر العضلات وتخفيف الخشونة أو التيبس في مفاصل فقرات الرقبة من خلال تحفيز سريان الدم في المنطقة المصابة. ويوصى باستخدام الأكياس العشبية كضمادات موضعية لمدة 20 دقيقة في كل مرة، مع تكرار ذلك 3 مرّات يوميًا.
تمارين تمديد العضلات
بغض النظر عن سبب آلام عُنُقك، فالأرجّح في معظم الحالات هو أن عضلات العُنُق والكتفين تتفاعل مع هذا الألم تأثُّرا وتأثيرا خلال حركات انبساطها وانقباضها. ولهذا، فإن تمارين تمديد عضلات العُنُق الخفيفة تكون مفيدة طالما أنها لا تتسبب في جعلك تشعر بألم حاد أو ألم على شكل طعنات لدى تحريك العُنُق (فهذا أمر قد ينذر بأن هناك انزلاقا غضروفيا).
وفي معظم الحالات تسهم تمارين التمديد في تخفيف آلام عضلات الرقبة، وذلك لأن التمديد يقلل الشد العضلي ويعزز المرونة. وتؤتي تمارين التمديد وتحريك العُنُق أفضل نتائج بعد الاستحمام بماء دافئ، سواء كان الألم حادًا أو مزمنًا.
ومن التمارين الجيدة التي يمكن البدء بها: لف الأكتاف، والحركات الدائرية بالرأس. ويمكن الانتقال بعد ذلك إلى تمرين لف العُنُق (تحريك الرأس يمينا ثم يسارا بالتناوب) وتمرين التمديد (رفع الوجه إلى أعلى وخفضه إلى أسفل بالتناوب) على أن تستمر كل جلسة تمرين لمدة بضع دقائق بمعدل 3 إلى 5 مرات.
وبعد تمارين إحماء العُنُق، ابدأ بتمرين تمديد عضلات الرقبة عن طريق تحريك عُنُقك مع رأسك جانبيًا بالتناوب – مع محاولة تقريب أذنك إلى الكتف.
بعد ذلك قم بتمديد عُنُقك نحو الأمام (بإمالته نحو الصدر) مع تحريكه يمينا ويسارا بالقدر الذي لا تشعر معه بألم حاد. ويوصى بأداء هذا التمرين لمدة 30 ثانية تقريبًا في المرة الواحدة على كل جانب مع التنفس بعمق مع تكراره 3 إلى 5 مرات يوميًا حتى يبدأ الألم في التلاشي.
المسار الثاني: التدخُّلات العلاجية
هناك حالات من آلام العُنُق لا تكفي معها المعالجة التلطيفية التي استعرضناها آنفا، وهذه الحالات تحتاج إلى تدّخلات علاجية على يد طبيب أو اختصاصي مؤهل ومُجاز لممارسة المهنة.
ومن بين أبرز أعراض إصابات العُنُق التي ينبغي عند ظهورها الحصول على رعاية طبية متخصصة فورية ما يلي: آلام العُنُق الحادة التي تزداد سوءًا مع مرور الوقت، وضعف عضلات الرقبة والكتفين، وتنميل الذراعين، والصداع على شكل طرقات، واضطراب الرؤية، وفقدان التوازن، والغثيان.
نسرد في التالي عددا من التدخلات العلاجية المقترحة:
تدليك العُنُق
كما أشرنا سابقًا، جميع آلام العُنُق تتأثر بالعضلات أو تؤثر فيها، لذا فإن معالجة العضلات توتر عضلات الرقبة تفيد عادة في تخفيف تلك الآلام.
وتدليك الأنسجة العضلية العميقة مفيد في حالات الإجهاد الخفيفة والمتوسطة لأنه يخفف التقلصات العضلية ويحارب الالتهاب ويعزز الاسترخاء. وفي هذه الحالة يبدأ المعالج بتدليك عضلات الكتفين والعُنُق لمدة 30 دقيقة مع التركيز على الجزء العلوي من الكتف وقاع الجمجمة. اسمح للمعالج بالتعمّق قدر المستطاع من دون أن يلتوي جسمك.
احرص دائما على شرب كمية كبيرة من الماء بعد جلسة التدليك مباشرة حتى يتمكن جسمك من طرد المنتجات الثانوية للالتهاب وحمض اللاكتيك والسموم.
المُعالجة التقويمية
يركز اختصاصي تقويم العمود الفقري وتقويم العظام على إحداث حركة ووظيفة طبيعية في مفاصل العمود الفقري الصغيرة. ويقوم مثل هذا الاختصاصي بفحص العُنُق المتألم ويحاول أن يحدد ما إذا كان ناجما عن العضلات أو المفاصل أو غير ذلك. وقد يقوم بالتعديل اليدوي للمفاصل لإعادتها إلى مواضعها الطبيعية.
وعلى الرغم من أن تعديل مفاصل فقرات الرقبة لمرة واحدة فقط قد يجعل المريض يشعر بالتحسن، فإن الأمر يحتاج عادة إلى بضع جلسات لتحصيل نتائج مستدامة.
العلاج الطبيعي
إذا كانت مشاكل العُنُق متكررة وتحدث بسبب ضعف عضلات العمود الفقري أو سوء وضع الجسم أو خشونة المفاصل، فإن المريض يحتاج إلى إعادة تأهيل للعمود الفقري بأساليب العلاج الطبيعي.
ويتولى اختصاصي العلاج الطبيعي اخضاع المريض إلى تمارين تمديد وتمارين تقوية مخصصة للعُنُق في إطار جلسات لإعادة تأهيل العمود الفقري عموما بما في ذلك فقرات الرقبة.
الوخز بالإبر الصينية
يمكن أن تكون المُعالجة بطريقة الإبر الصينية مفيدة في حالات آلام العمود الفقري عموما والرقبة خصوصا، لا سيما إذا استُخدمت هذه الطريقة عند ظهور الأعراض مباشرة. لكن يجب مراعاة أن يكون الشخص الذي يعالجك بالإبر الصينية مرخصا من جانب هيئة صحية حكومية.
وتعمل المُعالجة بالإبر الصينية عن طريق تحفيز الجسم على إفراز وإطلاق لمواد معينة مخففة للآلام، وبما في ذلك هورمون الإندورفين ومادة السيروتونين.
الحقن... والتدخُّل الجراحي
في حال آلام العُنُق العنيدة التي لا تستجيب للإجراءات التلطيفية أو للطرق العلاجية المقترحة آنفا، يصبح على المريض أن يستشير طبيبا متخصصا حول الخيارات التدخلية التي من بينها الحقن بالمسكنات الستيرويدية والتدخل الجراحي.
ويؤدي الحقن بالمواد الستيرويدية في المفصل أو العضلة أو الوتر الملتهب إلى تلطيف الالتهاب وتخفيف الآلام بما يسمح بمجال حركة أكبر للعُنُق. لكن الأطباء ينصحون بعدم استخدام الحقن الستيرويدية لأكثر من بضع مرات في العام، وذلك لأن الإكثار منه تكون له آثار جانبية من بينها ضعف العضلات والأوتار وضعف الجهاز المناعي.
أما التدخل الجراحي فلا يتم اللجوء اليه إلا كملاذ أخير وبقرار من جراح متخصص. فعادة، لا يلجأ الأطباء إلى جراحات العُنُق إلا في حالات الكسور، وحالات الخلع بسبب التعرض لصدمات شديدة، وهشاشة العظام، والانزلاق الغضروفي الحاد.
وضعيات النوم والجلوس... تصحيح من أجل عُنُق مستريح
لأن الوضعيات التي يتخذها الجسم على مدار اليوم تلعب دورا مؤثرا في صحة فقرات العمود الفقري عموما بما في ذلك فقرات العُنُق، فإن راحة العنق تستلزم تفادي وتصحيح الوضعيات الخاطئة في أثناء النوم والجلوس على وجه الخصوص.
ووضعية النوم منبطحا على البطن هي أحد أبرز مسببات آلام العُنُق والكتفين، وذلك لأن فقرات العُنُق تلتوي نحو الجانب في تلك الوضعية كي يتمكن الشخص النائم من التنفس. ومع مرور الوقت يؤدي التواء الرقبة في أثناء النوم إلى الإضرار بفقرات وأربطة وأوتار وأعصاب الفقرات العُنُقية.
ومثلما هو مبين في الشكل رقم 1، فإن أفضل وضعية للنوم بطريقة تحافظ على صحة العُنُق هي إما على الظهر أو على أحد الجنبين (بشكل مشابه لوضعية الجنين في الرحم). وفي حال النوم على ظهرك، لا تضع رأسك على أكثر من وسادة متوسطة واحدة. وعند النوم على جنبك، احرص على الا يكون ارتفاع وسادتك أكثر من المسافة بين طرف كتفك وأذنك. فالوسادات الأسمك مما ينبغي تؤدي إلى التسبب بتمدد مفرط ومؤلم في العُنُق.
وبطريقة مشابهة تلعب وضعية جلوسك دورا في التأثير على صحة رقبتك. فوضعيات الجلوس غير الصحيحة تشكل عبئا سلبيا على فقرات وعضلات وأربطة العُنُق على نحو يتسبب في الشعور بآلام.
وكما هو مبين في الشكل رقم 2، يتزايد الثقل على الفقرات العنقية كلما انحنى العنق مع الرأس إلى الأمام خلال الجلوس. ويوضح الشكل ان الوضعية الأمثل هي أن يكون وضع الرقبة قائما بشكل شبه عمودي في أثناء الجلوس مع انتصاب الظهر.
وفي التالي نورد مزيدا من الإرشادات والنصائح المفيدة في ما يتعلق بوضعيات العنق السليمة:
• اضبط وضعيات مكتبك وكرسيك وشاشة الكمبيوتر الخاصة بك بحيث يكون مركز أو منتصف الشاشة موازيا تقريبا لمستوى عينيك.
• خلال ردك على المكالمات الهاتفية، لا تضع سماعة الهاتف بين أذنك وكتفك، وإذا كنت تضطر كثيرا إلى عدم الامساك السماعة بيدك فاستخدم سماعات الرأس أو استخدم سماعة لاسلكية.
• عند قيادة السيارة، احرص على أن يكون ظهر المقعد ومسند الرأس قائمين في وضعية رأسية وداعمين لرأسك وظهرك معا.