سلسلة ترسم كل حلقة منها خارطة طريق إلى تحسين أحد جوانب الصحة والعافية... بدنياً ونفسياً
كَيفَ... تكتسب روح التفاؤل؟
هل ترى «كوب حياتك» نصف فارغ... أم نصف ممتلئ؟
اجابتك عن هذا التساؤل الكلاسيكي يمكن أن تعكس طبيعة نظرتك إلى الحياة، وموقفك تجاه نفسك، وما إذا كنت متفائلاً أو متشائماً – بل تنعكس في المحصلة بالسلب أو بالإيجاب على صحتك البدنية والنفسية العامة.
وبينما من الطبيعي جدا أن تشهد حياة كل شخص فينا تقلبات بين مشاعر ومواقف متناقضة، فإن نتائج أبحاث كثيرة أكدت أن اعتناق المرء لروح التفاؤل إزاء تلك التقلبات هو أمر يكون له تأثير إيجابي كبير على «نكهات» حياته ككل، بما في ذلك ما يتعلق منها بصحته الذهنية والنفسية والبدنية. فالتفاؤل يعتبر عنصرا رئيسيا مهما في تخفيف وطأة التوتر النفسي الإجهادي.
لكن اكتساب روح التفاؤل لا يعني تجاهل صعوبات وتحديات ومنغصات الحياة، بل يعني تغيير أو إعادة هيكلة أسلوب تعاملك معها سعيا إلى تحييد تأثيراتها السلبية أو على الأقل التكيف معها. فبمزيج من الوعي وإدراك الذات يمكنك طرد شبح التشاؤم من عالمك الخاص كي تتمكن من أن ترى جمال الجوانب المضيئة والإيجابية في تقلبات حياتك... بحلوها ومُرِّها.
هذا ما ستسعى حلقة اليوم إلى تسليط الضوء عليه من خلال الإرشادات والنصائح التالية المستندة إلى نتائج دراسات أجراها باحثون نفسيون...
حدد نزعة «حوارك الداخلي»
يوجد لدى كل شخص منا «حوار داخلي»، وهذا الحوار هو مؤشر مهم إذ إنه يكشف عما إذا كان الشخص يتبنى نظرة إيجابية أو سلبية إزاء الحياة.
لذا، عليك في البداية بمراقبة «حوارك الداخلي» على مدار يومك سعيا تحديد نزعته وتقليص الأشكال التالية من «الحديث» السلبي داخل نفسك:
• تضخيم الجوانب السلبية للمواقف الحياتية، واستبعاد الجوانب الإيجابية.
• إلقاء اللوم على نفسك تلقائيًا في أي موقف أو حدث سلبي.
• التشاؤم وتوقع الأسوأ مع أول موقف سيئ. مثلا: تقابل شخصا تكرهه وأنت في طريقك إلى عملك في الصباح، فتعتقد تلقائيًا أن يومك سيكون مليئا بالمصائب ويبقى ذلك الشعور ملازما لك طوال بقية اليوم.
• رؤية الأمور إما جيدة أو سيئة. وبتعبير آخر، نظرتك إلى كل أمر يحكمه نوع من «الاستقطاب» الحاد الذي يجعل ذلك الأمر إما ناصع البياض ومبشرا أو قاتم السواد ومنذرا بالسوء.
بين الإيجابية... والسلبية
التفاؤل لا يعني أنه ينبغي أن تشعر بالسعادة والانشراح طوال الوقت. ففي الواقع، قد تأتي النتائج عكسية إذا حاولت أن تفرض على نفسك مشاعر السعادة أثناء مرورك بمواقف حياتية مؤلمة أو حزينة. وعوضا عن ذلك، احرص على تطويع وتعويد نفسك على ممارسة سائر أنواع طيف مشاعر الوجدانية في مواقف حياتك المختلفة، وهذا يعني أن عليك أن تتقبل وتتعايش مع فكرة أن تكون المشاعر السلبية والإيجابية جزءًا طبيعيًا من نسيج حياتك.
لكن في الوقت ذاته، عليك بشكل خاص أن تقلص مساحة المشاعر السلبية وأن تحذر من أن تسقط في فخ الافراط في الشعور بالذنب بسبب ما حصل منها فعليا. وحتى لا يحصل ذلك، احرص على أن تتفادى لوم نفسك على مشاعرك السلبية وما قد يكون قد صاحبها من انفعالات. فلوم النفس غير مفيد لأنه لا يجعلك تتطلع إلى التقدم؛ بل يحبسك في سجن النظر إلى الوراء في ما حدث وانتهى. وبدلاً من ذلك، عليك بالتركيز على الانتباه إلى ما ينبغي أن تفعله في المواقف المستقبلية التي قد تتكرر فيها هذه المشاعر السلبية.
عزز وعيك الذاتي
وعيك بذاتك هو مكون رئيسي من مكونات روح التفاؤل، وذلك لأنه يشجعك على التركيز على الاعتراف بمشاعرك الوجدانية في لحظة حدوثها من دون إصدار أي حُكم عليها. ففي كثير من الأحيان، تنشأ تأثيرات نفسية سلبية عندما نحاول مصارعة أو كبت مشاعرنا، أو عندما نسمح لأنفسنا بأن «تُعمينا» عواطفنا الوجدانية إلى درجة أننا ننسى أنه يمكننا التحكم في كيفية استجابتنا إزاءها.
واعتمادا على وعيك بذاتك، هناك أشياء معينة يمكنك أن تقوم بها لتساعدك على كبح جماح الأمور والشعور بالارتياح إزاء نفسك عندما تعتريك مشاعر سلبية محرضة على التشاؤم، ومن بين تلك الأمور: إغماض عينيك لبضع دقائق مع التركيز على تنظيم أنفاسك، ومحاولة التعلم من تلك مشاعرك بدلاً من استنكارها أو محاولة إنكار وجودها أصلا.
ولتعزيز هذا الجانب، يستحسن أن تمارس رياضة التأمل الذاتي لبضع دقائق يوميا. فهذا من شأنه أن يساعدك على أن تصبح أكثر وعيًا بمشاعرك وأكثر تكيفًا وتعايشًا معها.
تجنَّب المقارنات... واشعر بالامتنان
من السهل أن تسقط في فخ الشعور بالغيرة أو ربما الحسد، لكن من المهم أن تعلم أن مثل هذا الشعور يمكن أن يؤدي بك غالبًا إلى تفكير سلبي محض (مثلا: «فلان يجني أموالا أكثر مما أجني»، أو «هذا ظلم! لماذا تترقى زميلتي وظيفيا أسرع مني؟»). ولكبح مثل هذه المشاعر، عليك أن تتذكر دائما أن هناك في الحياة من هم أقل منك في بعض الأمور.
فلن تستطيع أن تسلك طريق التفاؤل إلا إذا تعلمت كيف تتجنب تلك المقارنات السلبية مع الآخرين. فلقد كشفت نتائج بعض الدراسات إلى أن هناك ثمة علاقة سببية بين ميل المرء إلى الشكوى واصابته بالاكتئاب والقلق.
وهناك شبه إجماع بين اختصاصيي العلاج النفسي على أن ممارسة مشاعر الامتنان بانتظام في حياتك اليومية هو أمر يمكن أن يمنحك طريقة رائعة للخروج من دوامة المقارنات السلبية مع الآخرين.
ابتسم... تبتسم لك الحياة
أظهرت دراسات نفسية متخصصة أن رسم ابتسامة مبهجة على وجهك هو أمر من شأنه أن يجعلك تشعر بالسعادة والتفاؤل أكثر سواء إزاء حاضرك أو إزاء المستقبل.
وفي إحدى تلك الدراسات، تم تقسيم أفراد عينة البحث إلى مجموعتين وطُلب إلى أفراد المجموعة الأولى أن يضع كل واحد منهم قلما في فمه بالعرض (على نحو رسم محاكاة لحركات عضلات الوجه المميزة أثناء الابتسام) بينما لم يضع أفراد المجموعة الثانية أقلاما. وبهدف استكشاف تأثير ارتسام البسمة (حتى وإن كانت مصطنعة) طلب إلى أفراد المجموعتين أن يقوموا بتقييم مدى طرافة صور ومشاهد فكاهية. وأظهرت النتائج أن أفراد المجموعة الأولى (الممسكين بأقلام في أفواههم) استمتعوا بما شاهدوه أكثر من أفراد المجموعة الثانية، على الرغم من أنهم لم ينتبهوا إلى أن تلك الابتسامة المصطنعة هي التي عززت شعورهم.
واستنتج الباحثون من ذلك أن مجرد تغيير وضعية عضلات وجهك عن عمد لترسم عليه هو أمر يرسل رسالة مشابهة إلى عقلك، ما يؤدي إلى تحسين مزاجك وإشعارك بالسعادة.
انتهج أسلوب حياة صحياً
أثبتت نتائج ابحاث كثيرة ان مشاعر التفاؤل ترتبط ارتباطًا مباشرا وقويا بمدى الحركة والعافية البدنية، حيث اتضح بما لا يدع مجالا لأي شك أن ممارسة التمرينات الرياضية بانتظام هو من أفضل المعززات والمحسّنات الطبيعية للمزاج، إذ إنها تحفز إفرازات الاندورفينات المعززة لمشاعر السعادة.
وإذا أردت أن تنهل من ينبوع تلك الاندورفينات، فعليك أن تواظب على ممارسة نوع ما من النشاط البدني المناسب بمعدل ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع. لكن ليس شرطا أن يكون ذلك النشاط البدني تمارين رياضية في صالة ألعاب رياضية، بل يمكن أن يكون في أشكال أخرى كثيرة في سياق أنشطة حياتك اليومية.
إلى جانب هذا، يوصي أهل الاختصاص بالتقليل قدر المستطاع من تعاطي المواد التي تتسبب في إحداث تقلبات في الحال المزاج، كالمخدرات بأنواعها والكحوليات. فلقد وجدت دراسات روابط سببية ملموسة بين الإصابة بالتشاؤم وتعاطي تلك المواد.
كن إيجابيا إزاء الآخرين
هناك قاعدة نفسية شبه مؤكدة تقول إن «التفاؤل ينتقل بالعدوى»، فاحرص على أن تستفيد من تلك القاعدة وأن تفيد بها المحيطين بك.
واعلم أن إبداءك للمشاعر الإيجابية وللتعاطف في تعاملاتك اليومية مع الآخرين هو أمر لا يعود بالنفع عليهم فقط، بل يرتد اليك ثانية في شكل موجات أو «ذبذبات» منعكسة تسهم في مضاعفة مشاعر التفاؤل لديك ولديهم في دورة متصاعدة.
ويؤكد خبراء في مجال الطب النفسي أن هذا هو السبب الذي يفسر لماذا يشعر المرء بسعادة وتصبح نظرته إلى الحياة أكثر تفاؤلا عندما يشارك في أي عمل خيري أو في أنشطة تطوعية. وأيا كان نوع أو حجم العمل الخيري الذي يصدر منك، فإنه سيؤتي ثماره حتما في شكل تحريك جرعة اضافية من التفاؤل في نفسك.
لا تؤجل... لا تُهمل
التسويف وتأجيل المهام الواجبة أو إهمالها هو واحد من أكثر الأمور تشتيتا لمشاعر التفاؤل، وهو الأمر الذي يفسح المجال تلقائيا لتسلل روح التشاؤم إلى النفس البشرية.
ويمكن أن يأخذ التسويف والتأجيل والإهمال أشكالا كثيرة من بينها على سبيل المثال: عدم المواظبة على ممارسة الفرائض الدينية، التقصير في أداء الواجبات الاجتماعية إزاء أفراد الأسرة، السماح للفروض الدراسية بالتراكم يوما بعد يوم، تراكم الديون بسبب سوء إدارة الميزانية الشخصية.
وأيا كان شكل التسويف أو التقصير الذي ينغص عليك نظرتك إلى حياتك، فإن الشيء الذي عليك أن تقوم به هو السعي فورا إلى معالجة ذلك الأمر حتى لا يقف حجر عثرة في طريقك إلى اكتساب روح التفاؤل.
إضاءات
تفاؤل «أعمى»... وآخر «بصير»!
التفاؤل الأعمى هو ذلك الشعور الذي قد يدفع المرء إلى تصور أن كل أمور حياته ستكون مواتية وإيجابية ولن يحدث أي شيء سيئ. وهذا بدوره يمكن أن يقود الشخص إلى الإفراط في الثقة والسذاجة، كما يمكن أن يؤدي به إلى الاصطدام باحباطات وخيبات أمل أو حتى السقوط في خطر مميت.
وفي المقابل، هناك التفاؤل البصير الذي لا يتجاهل العراقيل والتحديات أو يتظاهر بأن المشاعر والخبرات السلبية لا وجود لها. وصاحب هذا النوع من التفاؤل الرشيد يعترف بوجود التحديات، ثم يقول لنفسه: «أنا قوي وأستطيع خوض غمار تلك التحديات وتحقيق النجاح في النهاية».
وعلى سبيل المثال، من التفاؤل الأعمى (بل والخطير) أن تقرر الذهاب لممارسة هواية الغوص أو القفز بالمظلات من دون أن تكون قد تلقيت أي دروس أو تدريبات عملية في هذا المجال، متذرعا بأن «لا مشكلة، فكل المعدات والتجهيزات موجودة، وكل شيء سيسير على ما يرام». فهذا التفاؤل غير واقعي، لأنه لا يعترف بأن هناك جهدا واجبا عليك أن تبذله من أجل التغلب على العقبات، فضلا عن أن قرار كهذا قد يضعك في مهب خطر حقيقي على حياتك.
أما صاحب «التفاؤل البصير»، فإنه سيتأمل هواية الغوص أو القفز بالمظلات ثم يدرك أنها رياضة معقدة تتطلب الكثير من التدريب وتدابير السلامة. لكن بدلاً من الإحجام عن بذل الجهد المطلوب، يقوم هذا المتفائل بتحديد هدفه ثم يبدأ في العمل نحوه، متسلحا بالأمل في أنه سيستطيع تحقيقه.
وعلى من يطمح إلى اكتساب روح التفاؤل الحقيقية أن يحرص على تطبيق هذه القاعدة التمييزية في سائر أنشطة حياته.
أوتار... وأنغام
كي تتمكن من الاستماع إلى أنغام روح التفاؤل، من المهم أن تقوم بإعادة توجيه حوارك النفسي الداخلي بحيث يعزف على أوتار الإيجابيات التي توجد في حياتك، سواء على مستواك كشخص أو على مستوى الحياة من حولك.
وعلى الرغم من أن التفكير في الإيجابيات والشعور بالامتنان إزاءها ليس سوى مجرد خطوة واحدة نحو تحولك إلى شخص متفائل حقيقي، فإن تأثيرات ذلك النمط من التفكير على جسمك وذهنك يمكن أن تكون كبيرة، وهذا يشمل:
• زيادة العمر المتوقع.
• تقليل احتمالات الاصابة بالاكتئاب والضيق النفسي، وأمراض نفسية أخرى.
• تحسين مناعة الجسم ضد عدد كبير من الأمراض العضوية.
• تعزيز العافية النفسية والبدنية العامة.
• تقليل مخاطر الوفاة بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية.
• تحسين مهارات التأقلم أثناء أوقات المحن والضغط النفسي.