نطرحها ونُجيبُ عنها من وحي كتاب «?Why Do Men Have Nipples»
تساؤلات مُدهِشة عن أجسامنا
بما أن ذكور الإنسان لا يقومون بإرضاع الأطفال طبيعيًا من الثديين مثلما تفعل الإناث، فهل تساءلت يومًا لماذا يولدون أساسًا مزودين بحلمتين على الصدر وما فائدتهما الفسيولوجية؟!
هذا التساؤل هو واحد من بين تساؤلات منطقية ومدهشة وطريفة عن أجسامنا، لكنها قد تكون محيرة لمن يسمعها للمرة الاولى ، إلى درجة أنه قد يسأل نفسه مندهشا: «عجبا! كيف لم أنتبه إلى هذا الأمر من قبل؟».
كما أن هذا التساؤل الطريف كان قد اختاره المؤلفان العلميان الأميركيان «مارك لينر» و«بيلي غولدبيرغ» عنوانا لكتابهما الأكثر مبيعا «لماذا لدى الذكور حَلمتان؟» (?Why Do Men Have Nipples) الذي أصدراه في العام 2005، وهو الكتاب الذي حاولا من خلاله أن يجيبا عن تساؤلات محيرة مشابهة بأسلوب أدبي تبسيطي استنادا إلى حقائق وتفسيرات علمية مؤكدة.
ومن الطريف أيضا أن معظم التساؤلات المنطقية التي تنتمي إلى تلك النوعية يطرحها عادة أطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 6 و 10 أعوام، وعندها يشعر آباؤهم أو معلموهم بالإحراج إذا كانت الأجوبة غير حاضرة لديهم، أو حتى إذا كانت الإجابة لديهم لكنهم لا يعرفون كيف يصيغونها بأسلوب يستطيع الطفل المتسائل أن يفهمه.
من هذا المنطلق، نستعرض في هذه السلسلة المفتوحة مختارات من تلك التساؤلات الأكثر إثارة للحيرة والدهشة حول أجسامنا وأغذيتنا وصحتنا من وحي الكتاب المذكور آنفا، مع الإجابة عن كل تساؤل بأسلوب مُبسَّط.
ونتناول في هذه الحلقة الأولى التساؤل: «لماذا لدى الذكور حَلمتان؟» الذي اخترناه عنوانا لموضوع اليوم مثلما فعل مؤلفا الكتاب المشار إليه آنفا. لكن... بينما اقتصرت إجابتهما عنه على زاوية علمية واحدة فقط، فإننا سنتناوله هنا من زوايا أكثر تنوعا، وهو ما سنفعله أيضا مع سائر تساؤلات الحلقات المقبلة في هذه السلسلة:
في سياق إحدى حلقات مسلسل كوميدي أميركي، يدور الحوار الفكاهي التالي بين صديقين حيث يقول الأول: «سوف أشعر بالسعادة الأبدية عندما أعرف إجابة السؤال الوحيد الذي مازلت لا أعرف إجابته حتى الآن»، فسأله الآخر مندهشا: «وما ذلك السؤال؟»، فأجابه: «لماذا لدى الذكور حلمات؟»
وعلى الرغم من الحقيقة العلمية التي تؤكد أن حلمة الرجل لا تختلف من الناحيتين التشريحية والفسيولوجية عند الرجال والنساء، إلا أن المفارقة تكمن في أنه حتى في أكثر المجتمعات المحافظة يستطيع أي رجل أن يسير على الشاطئ مثلا عاري الصدر وحلمتاه مكشوفتان بينما لا تجرؤ امرأة على أن تفعل ذلك التصرف ذاته، حتى في أكثر المجتمعات انفتاحا وتحررا!
ماذا يقول العلم الحديث؟
من الثابت علميا أن الجنين في سن من 4 إلى 5 أسابيع تنشأ لديه في صدره قنوات الحليب، وفي تلك الفترة لا يكون جنسه قد تحدد من حيث الذكورة والأنوثة. لكن عندما ينمو الجنين ويتخذ مسار التأنيث في مرحلة لاحقة، يتطور تشريح تلك القنوات أكثر حيث تكبر قنوات الحليب، بينما تبقى الحلمتان أقل حجما وتطورا لدى الجنين الذكر.
ولتوضيح الصورة أكثر، فإنه خلال الأسابيع القليلة الأولى من الحمل يتطوّر نمو الجنين البشري وفقا لنمط محايد (أي لا مؤنث ولا مذكر) فتتشكل حلمتا الثديين ولا تكون هناك أي معالم فارقة على صعيد الأعضاء التناسليّة. ولكن الحسم يكون بعد مرور 60 يوماً تقريبا. إذ إنه إذا بدأ نشاط هورمون الـ«تستوستيرون» بكثافة معينة عند الجنين، فإنه يؤدي إلى توجيه نمو أعضائه التناسليّة وخلاياه الدماغية في اتجاه النمط الذكوري، ومن هنا يبدأ الجنين الذكر في اتخاذ تركيبته التشريحية الجسديّة الخارجيّة والداخليّة التي تميّزه عن الأنثى، لكنّ حلمتيه تبقيان.
ولكن من المهم هنا توضيح والتأكيد على أن الأجنة البشرية لا تبدأ مسيرتها التخليقية في جسم الأم كإناث، بل الحقيقة العلمية الثابتة هي أن التركيبة الجينية لكل نطفة تكون محددة سلفا منذ لحظة تخصيبها، وهذا يعني أن «البرمجة الجينية» الخاصة بأنوثة أو ذكورة كل نطفة تكون محسومة منذ البداية الأولى، لكن اتجاه تلك البرمجة لا يتجلى إلا في الأسابيع من السادس إلى التاسع من عمر الجنين، أي بعد أن تكون حلمتاه قد تشكلتا خلال الأسابيع السابقة لذلك.
فهناك إجماع بين علماء الوراثة الجينية على أن كل نطفة بشرية تحوي في منشأها جميع المعلومات الجينية (الوراثية) التي تؤهلها كي تصبح إما أنثى أو ذكرا وأنها تبقى غير محددة الهوية خلال الأسابيع الثمانية الأولى من حياتها، ولكن في حال احتوائها «الكروموسوم Y» (وهو جزيء حمض «DNA» وراثي) فإن هورمون الذكورة «تستوستيرون» يبدأ في النشاط بعد مرور نحو 60 يوما على تخصيب النطفة، وبالتالي يتحول مسار تخليق الجنين إلى الذكورة ولكنّ الحلمتين تبقيان على صدره ويولد بهما.
وعلى الرغم من أن الذكور لا يُرضعون، فإنه مما يثير التعجب أن الحلمتين لديهم تبقيان طوال أعمارهم محتفظتين بتشريحهما الغُددي والعصبي والعضلي المؤهل لإدرار سوائل في بعض الحالات النادرة. (طالع الكادر المعنون «رجال يُرضعون من حلماتهم... بين الحقيقة والخيال الأدبي!»).
تفسيرات متنوعة
أما في سياق الإجابات التي طُرحت ردا على التساؤل: «لماذا لدى الذكور حلمتان؟»، فقد ظهرت تفسيرات متنوعة حاولت أن تعطي أجوبة مقنعة.
أحد تلك التفسيرات يؤكد أن جميع الأجنة البشرية تكون «أنثوية» التفاصيل في منشأها التكويني الأول في الرحم، ثم تتمايز عند مرحلة معينة بحيث يواصل بعضها مسيرة كإناث بينما يتخذ بعضها الآخر الطبيعة الذكورية التي تتجلى بشكل خاص في الأعضاء التناسلية الداخلية والخارجية.
وبتعبير آخر، فإن هذا التفسير يرى أن الحلمتين اللتين يولد بهما الذكر هما بمثابة «أثرين تِذكاريين» يبقيان معه كـ«مخلفات» من مرحلة تخليقه الأولى التي لم يكن فيه ذكرا ولا أنثى.
ويتساءل بعض الناس في حيرة: هل الحلمتان لدى الذكور تعنيان أن الرجال في عصور البشرية المبكرة كانوا يقومون بإرضاع أطفالهم من نهودهم جنبا إلى جنب مع الأمهات لكنهم توقفوا عن القيام بذلك لاحقا فكانت النتيجة أن ضمرت أثداؤهم مع مرور الزمن وفقا لما افترضته «نظرية النشوء والتطور» المثيرة للجدل التي وضعها العالم تشارلز داروين؟
وظيفة «استثارية»...
وهناك تفسيران آخران لوجود حلمتين لدى الذكور، وهما التفسيران اللذان يتعلق أحدهما بوظيفتهما كـ«مستثيرين» للرغبة الغريزية الحميمية لدى كِلا الجنسين، بينما يتعلق الآخر بكفاءة وتناسق تصميم خلق الجسم البشري إجمالا.
التفسير الأول يرى أن وظيفة الحلمتين لا تقتصر على إدرار الحليب لإرضاع المولود، بل تتعداه إلى وظائف فسيولوجبة أخرى من بينها أنهما تحويان نهايات عصبية حساسة تعمل كـ«مستثيرات» للرغبة الحميمية عند الجماع الذي يتطلب عادة «تلامس واحتكاك» الصدرين معا. ومن هذه الزاوية، تقوم الحلمتان بالوظيفة «الاستمتاعية» ذاتها لدى طرفي العلاقة الغريزية الحميمية.
تشبيه بتصميم السيارة!
أما التفسير الثاني لوجود حلمتين لدى الذكور فإنه يرتكز على أساس مبدأ علمي يعرف بـ«كفاءة التصميم الأساسي».
ويرى أصحاب هذا التفسير أن هذا المبدأ يمكن أن يفسر لنا وجود حلمتين لدى الذكور، وأنه يتشابه مع أساليب تصميم كثير من السيارات الحديثة على سبيل المثال! وفي محاولة لتطبيق مبدأ «كفاءة التصميم الأساسي» على وجود الحلمتين لدى الذكور، يشرح أنصار تلك الفكرة الأمر من خلال المنطق الطريف التالي: عندما تشتري سيارة ذات موديل معين، فإنك ستلاحظ أن هناك خيارات (أوبشن) متنوعة متاحة لدرجات ذلك الموديل، وأن الفئة الأساسية يكون سعرها هو الأقل بينما يزداد السعر في الفئات الأعلى لأنه تضاف إليها خيارات غير موجودة في الفئة الأساسية. ولأن هذه الخيارات الإضافية تتطلب مفاتيح وأزرار وأقراص عدادات ولوحات وتجاويف لشاشات إلكترونية، فإن واضعي تصميم الموديل يحرصون من باب «كفاءة التصميم» على أن تحوي الفئة الأساسية جميع «الفتحات» اللازمة لإضافة اي واحد من الخيارات الإضافية إذا قرر مشتري السيارة ذلك لاحقا. إذا إنه من غير الكفاءة هندسيا وتصنيعيا أن يتم وضع تصميم مختلف لكل فئة من فئات الموديل ذاته، بينما من الكفاءة أن يحوي التصميم والهيكل الأساسي جميع التجاويف التي يمكن أن تحوي أي «أوبشن» في حال الاحتياج إلى إضافته إلى السيارة مستقبلا.
وبتعبير آخر، ينطوي ذلك التفسير على أنه من الممكن أن يصبح لحلمتي الذكور استخدام في إرضاع الأطفال في مرحلة لاحقة من مراحل تطور الجنس البشري، لكن ليس من المتوقع لهذا أن يحصل – هذا إذا حصل أصلا – إلا بعد عشرات الآلاف من السنوات، إن لم يكن مئات الآلاف أو أكثر من ذلك!
واستنادا إلى هذا التفسير، يمكن القول إن النظير البيولوجي لتصاميم وهياكل موديلات السيارات يتمثل في الشيفرة الوراثية البشرية التي تكمن في حمض «DNA» الوراثي الذي يتألف بدوره من مكونات كثيرة من أبرزها الصبغيات الوراثية التي تعرف باسم «كروموسومات».
ويمضي أصحاب هذا التفسير موضحين أنه مثلما أن فتحات تصميم الهيكل الأساسي لموديل السيارة يتم تصميمها وتصنيعها بغض النظر عما إذا كان سيتم أو لن يتم وضع اللوحات والمفاتيح والشاشات والعدادات فيها، فإن مبدأ «كفاءة التصميم الأساسي» في تخليق الجنين البشري اقتضى أيضا أن يتم وضع كل شيء في الحسبان في التصميم الأساسي للجنين، وهو الأمر الذي يتم في مرحلة التكوين الأولى، والتي يكون الجنين فيها غير محدد الجنس بعد.
رجال «مُرضِعون»... بين الحقيقة والخيال الأدبي!
في ضوء ما استعرضناه آنفا في التقرير الرئيسي حول تشابه تشريح الثدي وحلمته لدى الذكور مع نظيره لدى الإناث، فإن التساؤل الغريب التالي يصبح مشروعا: هل هذا يعني أنه من الممكن لرجل أن يفرز حليبا من ثدييه عبر حلمتيه؟
المدهش أن الإجابة عن ذلك التساؤل وفقا لتأكيدات علماء متخصصين هي: «نعم، ولكن في حالات نادرة وتحت ظروف معينة»!
ففي العام 2002، تناقلت وسائل الإعلام حول العالم قصة رجل سريلانكي أعلن أنه بدأ بإرضاع طفلته من ثدييه بعد أن توفيت زوجته (أمها) عقب وضعها مباشرة! ذلك الرجل، الذي كان بالغا من العمر آنذاك 38 عاما، قال إنه كان يتمزق ألما وهو يرى رضيعته وهي تصرخ من شدة الجوع بعد وفاة أمها، لا سيما أنها رفضت تماما أن تتغذى على الحليب الاصطناعي. وأضاف: وذات مساء، دفعني تأثري إلى محاولة إسكاتها بأن ألقمتها حلمة ثديي. وعند ذلك اكتشفت أن صدري قادر على إدرار حليب، مشيرا إلى أنه واصل إرضاعها طبيعيا لمدة 3 أشهر كاملة بعد ذلك!
ونقلت تلك التقارير الإعلامية عن طبيب ومسؤول صحي حكومي سريلانكي يدعى كمال جاياسينغي قوله إنه من الممكن أن تفرز أثداء بعض الرجال سوائل قريبة التركيب من الحليب إذا كان إفراز هرمون البرولاكتين لديهم مرتفعا جدا»، مؤكدا على أنه تم فحص السائل المتدفق من صدر ذلك الرجل واتضح أن تركيبته قريبة إلى حد كبير من تركيبة حليب الأمهات، وإن كانت تنقصه بعض العناصر الغذائية الأساسية!
وعبر التاريخ البشري، تم رصد عشرات من حالات الإرضاع الطبيعي (من الثديين) من جانب ذكور. لكن معظم تلك الحالات لم يتم توثيقها بحثيا وطبيا بما يكفي للسماح بالتأكيد على أن افرازات أثداء أولئك الذكور لم تكن ناجمة عن إصابتهم بأمراض تؤدي إلى ارتشاح سوائل تشبه الحليب عبر الحلمتين.
وفي بعض الأحيان، يُلاحظ أن بعض الأطفال حديثي الولادة (من كلا الجنسين) تتقاطر من حلمات اثدائهم قطرات حليب؛ ويُطلق الأطباء وعلماء الأحياء على ذلك الحليب اسم «حليب الساحرة». لكن تلك الظاهرة لا تعني بالضرورة قدرة الذكور على إدرار الحليب والإرضاع طبيعيا عندما يكبرون.
وكان عالم الأحياء الأشهر تشارلز داروين فإنه سعى إلى محاولة تفسير وظيفة حلمات الذكور بأن افترض أن الزوج والزوجة في الأسلاف الأوائل لذكور وإناث الإنسان كانا يتشاركان معا إرضاع أطفالهما من أثدائهما، وأنه من خلال التطور تدريجيا على مدار ملايين السنين تعطلت تلك الوظيفة لدى الذكور لأنهم كانوا ينشغلون معظم الوقت في السفر للصيد والبحث عن الطعام. لكن تلك النظرية الداروينية (وغيرها من نظريات النشوء والتطور) ما زالت تلقى رفضا شديدا وانتقادات متزايدة سواء من جانب علماء الأحياء أو من جانب الديانات السماوية الثلاثة.
وعلى الجانبين التاريخي والثقافي، فإنه من اللافت أن مسألة «الذكور المُرضعين» تكرر ظهورها في عدد من نقوش وكتابات الآثار التي تركتها بعض الحضارات القديمة، بل وحتى في بعض الإسرائيليات والروايات التوراتية. كما أن الخيال الأدبي خاض تلك الساحة، إذا ان أعمالا درامية وروائية عدة تخيلت حالات يقوم فيها رجال بإرضاع أطفال من صدورهم. ومن أشهر تلك الأعمال رواية «أنّا كارنينا» للكاتب الروسي الشهير «ليو تولستوي».