الرأي اليوم / قدسنا ... سامحينا
و«مريت بالشوارع»... شوارع العرب القديمة والجديدة لا شوارعك. بحثت عنك داخل الحصون والعيون، على الجدران وفي الوجدان، في بؤس الطفولة وخيبات الكهولة، في لامبالاة العابرين وهموم القادمين المستجدة، في يوميات الناس وتعب العمال. بحثت عنك في لهو اللاهين عن أي قضية، وفي فرح المنتشين بالصفقات واللاهثين وراء الدولار والريال والدينار، في الفن والثقافة، في الأدب والشعر، في البيوت والصحارى والخيام...
لم أجدك يا قدس، وإن وجدت شيئاً فبقايا من أغانٍ وأشعارٍ مدفونة على استحياء في ما حضر من ضمائر، وبقايا من صور بالأبيض والأسود في ذاكرة عشّشت فوقها عناكيب التخلّي.
لم أجدك يا قدس ولن أجدك، ولو قال لك مليار متظاهر إنك موجودة في بيوتنا وقلوبنا وضمائرنا وعزائمنا فاعلمي أننا أمة نجتر الشعارات في المصائب ثم نعود إلى النوم في كهوفنا... الكذب آخر ما تحتاجين إليه، فلم نكن معك سوى بالحناجر يوم أدمتك بالخناجر عصابات وعد بلفور، ولم نكن معك سوى بالشعارات يوم بدأت عمليات التهويد وحصار المستوطنات، ويوم حفروا تحت مسجدنا بحثاً عن حجارة ناقصة من معابدهم، ويوم استنجد الأقصى بالرجال عندما اقتحمته قبعات نجمة داوود، وبالتأكيد لن نكون معك عندما اعترف بك سيد البيت الأسود عاصمة لدولة إسرائيل.
لم أجدك... لأننا يا مدينة الصلاة وجدنا أشياء كثيرة تقدمت أهميتها عليك وصارت خبزنا اليومي وأولوياتنا المطلقة. أنت جامعة الأنبياء والأديان ونحن نسخّر أيامنا للتفريق بين الأنبياء والإساءة إلى الأديان. كيف نهتم لك ولمقامك الجامع ونحن منشغلون ليل نهار بالانقسامات الدينية والطائفية والمذهبية؟ كيف نركّز شاشاتنا وإعلامنا على قضيتك وكاميراتها مشغولة بحروب الإخوة ودسائس الأشقاء وإرهاب يتلطى باسم الدين وانتفاضات شعبية وقمع دموي لها؟ كيف نطلب الاحتجاج من اعتراف ترامب بك عاصمة لإسرائيل والمواطن العربي لا يعترف أحد لا بحقه في الحرية، ولا بحق أولاده بمستقبل واعد، ولا بحق دفنه إن قتل تحت ركام بيته نتيجة غارة، ولا بحق نجاته من أسماك القرش إن غرق زورق اللجوء الذي كان يستقله؟.
ها نحن يا قدس، تركناك لأنك كنت القضية الكبيرة التي تجمعنا من مختلف الأديان والطوائف وقلنا «لك الله»، ثم صارت قضايانا تصغر يوماً بعد يوم حتى رخصت الدماء التي كان يفترض أن تنتصر لمقامك ومساجدك وقبابك وتاريخك ورمزيتك. دماؤنا تسفك في كل المعارك التي أنتجناها يوم تخلينا عنك كقضية مركزية. تسفك في ساحات التراشق المذهبي بين من يُفترض أنهم مسلمون، وتسفك في لعبة الأمم التي تستخدمنا كوقود بحجة نصرة مسلمين، وتسفك على مذابح الإرهاب باسم الإسلام، وتسفك بالإبادات الجماعية من قبل ديكتاتوريين نسوا أنهم مسلمون... تركناك وقلنا «لك الله» ونحن في الواقع نتواطأ مع الاحتلال ضدك، لكننا اليوم في كل شارع وقرية ومدينة نصرخ «ما لنا غيرك يا الله» وندرك أننا بالتخلي عنك تخلّينا عن أنفسنا.
سامحينا يا قدس، فقد تكون العودة إليك عودة إلينا، سامحينا وأنت التي أعطيت البشرية كل قيم الإيمان والمحبة والتسامح فبجلك العالم وأشعرك تخلي أبنائك عنك باليتم.
ربما يجب أن نعيدك سيرة يومية في حليب أطفالنا وطعام أبنائنا وكتب طلابنا ومعاول عمالنا ومناجل فلاحينا ومكاتب موظفينا.
وربما يجب أن تكوني دائماً الخبر الأول في شاشاتنا حتى ولو كان الحديث عن أطفالك وشبابك ونسائك وشيبانك وخطيب الأقصى وبساتين الليمون وحقول الزيتون.
وربما كان تصحيح المشهد باتجاه القضية المركزية ودعم صمودك أمام جيش الاحتلال وعصاباته تصحيحاً لخيباتنا وتخلّفنا وتراجعنا، ووقفاً لتقاتل فصائل ترفع صورتك، وترميماً للبيت الفلسطيني... وإعادة لرحيل عيون العرب إليك كل يوم.
قلت «ربما» لأنني وعدتك بألّا أكذب عليك، فربما بتنا أسرى خلافاتنا وانقساماتنا وعجزنا إلى درجة العشق. لكنك اليوم تنزفين وأبناؤك يبلّلون بالدمع والدم عطش المحاصرين والمصابين. أيتها المدينة العظيمة، ما من حجر في سورك القديم إلا وعاش قصة عداء مع بندقية محتلّ. ما من بلاطة في شوارعك العتيقة إلا ومرّ عليها تاريخ من الغزوات والفتوحات، ما من شمس أشرقت على كنائسك ومساجدك إلا وصبّحت باسم الخالق عزّ وجلّ... وبالرغم من عجزنا وتواطئنا إلا أن قبة الصخرة لن تحجبها قبعة سوداء أو قلنسوة.
سامحينا يا زهرة المدائن، فغفرانك قد يجعل زهور النخوة تتفتّح في مدننا... إن توقّف الخريف.