مثقفون بلا حدود

التآلف والتآخي بين اللغات (1 من 5)

No Image
تصغير
تكبير
العربية لغة أمة: يقول الحق تبارك وتعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا» 1، ويقول عز من قائل: «وما أرسلناك إلا كافة للناس» 2، كافة للناس والأجناس بهذا القرآن العربي، وهنا خرجت اللغة العربية من رحم العرب، وأصبحت لغة عالمية، لا فضل للعرب فيها، إنما هناك تشريف للعرب أن نزل هذا القرآن على لغتهم، ولكن الأفضلية للتقوى يقول الله عز وجل «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» 3. ويقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» 4.

وهذا ما ذهب إليه الباحث اللغوي الجزائري‏ محمد العربي ولد خليفة، وهو من الأمازيغ وقد ترأس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، ردحا من الزمن، حيث قال: «العربية هي أساس ثقافة وحضارة وليست عرقا أو سلالة وحـَّد القرآن لهجتها في الفصحى واحدة موحدة وهي من أولى اللغات التي اكتمل توحيدها وإحكام نحوها وصرفها في زمن مبكر يزيد على 1200 عام، وهي اليوم حسب ترتيب اليونسكو اللغة السادسة بين اللغات الأكثر انتشارا في العالم» أ.هـ.5.

والله عز وجل شرّف العرب بأن أنزل هذا القرآن على لغتهم العربية، وانتقل بها من الخاص إلى العام فأصبحت لغة شمولية، وحينما يقول الحق تبارك وتعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» 6، مع وجود الأديان والمعتقدات الأخرى، فهو تبارك وتعالى أكمل لنا لغتنا العربية مع وجود اللغات الأخرى، و: «وأتممت عليكم نعمتي» أتم علينا اللغة فلا لغة تعلو هذه اللغة من حيث الجذور والمشتقات، لربما يرى البعض بأنها لغة صعبة ولغة عملاقة، نقول له: نعم؛ فكيف تكون لغة عالمية خاتمة إن لم تكن لغة صعبة، ولا بد أن تكون لغة عملاقة، فالقصير لا يطعم الطويل، فإذا تفوقت عليها أية لغة بطلت عالميتها وبطل إعجازها، لذا فكل ما جاء في الدين ينطبق على اللغة، ففي قوله عز وجل «لكم دينكم ولي دينِ» 7، يعادله لكم لغتكم ولي لغتي، وفي قوله عز وجل «لا إكراه في الدين» 8، يقابله «لا إكراه في اللغة».

وهنا وجب عليهم أن ينشروها ويقدموها للناس باللطف واللين وبالتراحم فيما بينهم، قال تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» 9، والفظاظة هنا بالقول، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وتطاوعا ولا تختلفا». كما يقول عز وجل: «ومن أحسنُ قولا ممن دعا إلى الله وعملا صالحا وقال إنني من المسلمين» 10.

ولطالما ارتبط الدين الإسلامي باللغة العربية كما مرت بنا الآيات الكريمات؛ فإن كل ما ينطبق على هذا الدين من سلوك ينطبق على اللغة، فإذا كان هذا الدين جاء متشددا متعصبا متزمتا معسرا ويدعو إلى العنصرية، فإن لغته التي نزل بها كذلك، أما إذا كان هذا الدين نزل بموجب قوله تعالى: «فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا»، وفي قوله تعالى: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»، وقوله تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، فاللغة التي نزل بها كذلك.

وفق هذه المعادلة سأضرب مثالا بسيطا: لدينا شخصان؛ الأول سمع أذان الفجر فقام وتوضأ وذهب إلى المسجد ليصلي جماعة ويكسب 27 درجة والحسنة بعشرة أمثالها، والآخر سمع أذان الفجر فقام وتوضأ وصلى في بيته وحرم نفسه من 27 درجة. والسؤال هنا: هل الشخص الثاني الذي صلى في بيته قد ارتكب معصية يحاسب عليها عند الله سبحانه وتعالى، أم أن هناك أفضلية للأول الذي صلى في المسجد مع الجماعة وكسب 27 درجة؟!

ولو قابلنا ذلك لغوياً، فسنجد الذي صلى في المسجد يجمع (بحث) على (بحوث) و(مشكلة) على (مشكلات) ويقول (غير الكويتي) ويستخدم (الآتية) مثل (الأهداف الآتية)، ويستخدم (الرئيسة) ويقول (أكد ضرورة) ويستعمل كلمة (ملحوظة) ويجمعها على (ملحوظات)، ويكتب همزة (شؤون ومسؤول) على الواو بدلا من كتابتها على النبرة (شئون ومسئول)، ويرسم (مئة) هكذا وفقا للقاعدة دون ألف تسبقها (مائة)، ويكتب همزة (هيأة) على الألف وفقا للقاعدة.

وأما من آثر الصلاة في البيت على المسجد وحرم نفسه من سبع وعشرين درجة؛ فيعادله في اللغة الذي يجمع (بحث) على (أبحاث) و (مشكلة) على (مشاكل) ويستعمل (الغير كويتي) ويستخدم (التالية) مثل (الأهداف التالية)، ويستخدم لفظة (الرئيسية) ويقول (أكد على ضرورة) ويستعمل كلمة (ملاحظة) ويجمعها على (ملاحظات)، ويكتب همزة (شئون ومسئول) على نبرة، ويرسم (مائة) هكذا خلافا للقاعدة، ويكتب همزة (هيئة) على نبرة مثلما هو شائع مخالفا بذلك قاعدة الهمزة. وهو بذلك لم يرتكب خطأ لغويا مثلما الذي صلى الفرض في بيته فهو لم يرتكب معصية. إلا أن هذا اللغوي هو أقل مستوى من اللغوي الذي صلى فرضه مع الجماعة في المسجد.

إذن لماذا لم نعدّ المستوى الأقل خطأ لغويا؟

أولا: وقبل كل شيء فإن كل ما ينطبق على الدين من سلوك ينطبق على اللغة. والدين يسر والله عز وجل يقول: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» 11.

ثانيا: هب أننا خطـّأنا المستوي الأقل، سوف نجد أن المجامع اللغوية في كل مرة تصدر قرارات تجيز مثل هذا المستوى الأقل، ولا تجد له مسوغا بل لديها مبرر وهو كثرة الاستعمال أو استخدام شائع أو تيسير النحو، مثلما أجاز مجمع اللغة في القاهرة دخول (ال) التعريف على (غير)، (الغير كويتي)- على سبيل المثال- الذي كنا ندرّسه ردحا من الزمان على أنه لا يجوز دخول (ال) التعريف على (غير) على اعتبار أنها نكرة مبهمة ومعرفة بالإضافة، وأجاز مجمع اللغة في القاهرة أيضا استخدام (الرئيسية) بياء وأجاز رسم (مائة) وأجازة كتابة (هيئة) وهلم جرا. وكل ذلك كنا قد درّسناه على أنه من الأخطاء اللغوية الشائعة، ولا أدري ما موقفنا الآن أمام طلابنا بعد هذه الرخص في الاستعمال من المجامع اللغوية؟!

* كاتب وباحث لغوي كويتي

fahd61rashed@hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي