لبنان بين «قومجية» عبدالناصر و«شعوبية» إيران
15 نوفمبر 2017
12:00 ص
2125
يتهم العرب أشقاءهم اللبنانيين بأنهم جماعة متكبرة، تتشبه بالغرب وتتلهى بالشكل على حساب المضمون. اتهام ظهرت ملامحه بعد استقالة الرئيس سعد الحريري المفاجئة الأسبوع الفائت في طريقة تعامل مناصريه - الصادقين منهم والمنافقين - مع هذه الاستقالة من حيث التركيز على شكلها طامسين الأسباب الموجبة لتلك الخطوة المقلقة.
من حيث الشكل أتت استقالة الحريري من الرياض كسابقة مخالفة لبروتوكول السياسة والدستور الذي يشترط مثول رئيس المجلس أمام رئيس البلاد وتقديم الاستقالة وموجباتها، مطلقا بذلك الآلية الدستورية لتشكيل حكومة جديدة. الجزء الأكبر من الذين استغربوا شكل الاستقالة ركزوا على توقيتها وعبروا عن قلقهم إزاء سلامة الحريري الذي ظهر عبر التلفزيون «متجهم الوجه وقلقا»، في حين شن الجزء الآخر أي جوقة الزجل التابعة لمحور الممانعة حملة على المملكة معتبرة أن الاستقالة باطلة كونها أتت تحت الإكراه، معلنة أن الحريري هو «أسير مواقف المملكة» التي «وضعته تحت الإقامة الجبرية». ورغم مرور أسبوع على «الاعتقال» وقيام الحريري بالعديد من الخطوات العلنية التي تفند تلك المزاعم، من بينها حلقة حوارية متلفزة ومباشرة على الهواء، تستمر سردية الاعتقال من قبل «حزب الله» وحليفه المسيحي الرئيس ميشال عون الذي اجتهد بتفسير مقابلة الحريري بأنها محاولة يائسة من السعودية لتلميع صورته، ما دفع بالرئيس عون «حامي الدستور» إلى إعطاء تعليمات إلى تلفزيون لبنان الرسمي بحجب المقابلة. خطوة لم يتردد عدد من التلفزيونات الأخرى الممانِعة التي استجدّ حبها للحريري بتطبيق قرار الرقابة من دون الأخذ في الحسبان أيٍّ من معايير المهنة وحرية التعبير عن الرأي.
الأخطر من الشعوذة الإعلامية هو حالة نكران الدولة اللبنانية ورئيسها بأن استقالة الحريري ومضمونها لم تأتِ فقط بسبب أعمال «حزب الله» العدائية التي بدأت في العهد السابق بل أيضا لأن الدولة اللبنانية، وبعد أن شرّعت ترسانة الحزب، سمحت له بأن يقوم بتسليح الدولة اللبنانية وتحويلها إلى منصة صاروخية معنوية وعسكرية للنيل من السعودية وعدد من الدول العربية الأخرى كالكويت والإمارات العربية المتحدة.
اعتراض السعودية واستقالة الحريري ركزا على عدم جواز مشاركة «حزب الله» في أي حكومة كونها «الذراع الإيراني ليس في لبنان فحسب بل في البلدان العربية». هذا الموقف السعودي و لو بلسان الحريري ليس بجديد، فخلال عهد الرئيس السابق العماد ميشال سليمان كانت تلك الذراع كما هي الآن منغمسة بالصراعات المذهبية بفارق جوهري وحيد أن الدولة اللبنانية عبر تبنيها إعلان بعبدا رفضت - ولو بالكلمة فقط - تغطية المغامرات الشعوبية المعادية للعرب. فالرئيس سليمان، وعبر موقفه الشجاع، أرسل رسالة واضحة إلى العرب والمجتمع الدولي مفادها أن الدولة اللبنانية ورغم ضعفها ما زالت تصارع سيطرة «حزب الله» عليها.
منذ نشوئها ورغم ما يحيطها من مشاكل إقليمية، نجحت الدولة اللبنانية في القدرة على تفادي الوقوع في الهاوية عبر إعلان الحياد في المسائل الخلافية ذات الطابع الإقليمي بدءا من مشروع عبد الناصر والحرب الباردة. هذا الحياد أعطى الاقتصاد اللبناني فرصة النمو والتحول نحو الاقتصاد الخدماتي المحلي والإقليمي والذي استفاد من الحروب والانقلابات المتعددة التي كانت تعصف بالمنطقة. مقتل الدولة اللبنانية أتى عندما قام بعض أركانها بالتذاكي ومحاولة المراهنة على طرفي الصراع... حركة أدت الى معاقبة لبنان اقتصاديا في واقعة تشبه إلى حد بعيد الورطة التي يواجهها لبنان حاليا.
في أوج الصراع بين الملك الراحل فيصل والزعيم جمال عبدالناصر قام الأخير بالتورط في الصراع اليمني إلى جانب الثوار الجمهوريين الذين أرادوا الإطاحة بالنظام اليمني الملكي المتحالف مع السعودية. خطوة أدت الى تورط عبدالناصر الطامح إلى إبراز قوميته العربية المستجدة على الساحة الإقليمية. الدعم السعودي للملكيين وعوامل محلية عدة أدت إلى هزيمة عسكرية مصرية تمثلت بخسارة مصر الآلاف من قوات النخبة المظلية.
إزاء ذلك، قرر عبدالناصر الرد على الملك فيصل في بيروت، فأمر المخابرات المصرية بالتحضير لاغتيال أحد أبرز الصحافيين المعارضين للظاهرة الناصرية، صاحب ومؤسس جريدة «الحياة» اللبنانية كامل مروة. مروة الصحافي الشيعي وابن جبل عامل في الجنوب اللبناني، رافق مسيرة الحاج أمين الحسيني التحررية مما أعطاه الشرعية للتشكيك في المشروع القومي لعبدالناصر. مشروعٌ، حسب مروة وأقرانه، يخفي رغبة جامحة في السيطرة على المشرق وفرض نظام بوليسي يشبه الجمهورية المتحدة بشقها السوري تحت حكم السفاح عبدالحميد السراج. مقتل مروة في مكتبه في ربيع سنة 1966 على يد «شبّيح» محلي وعضو في التنظيم الناصري كان رسالة واضحة للملك فيصل بأن عبدالناصر هو الآمر الناهي في شؤون المنطقة.
في بادئ الأمر، امتنع الملك فيصل عن اتهام الدولة اللبنانية ورئيسها شارل حلو، ولكن مع انكشاف خيوط الجريمة ودور الدولة اللبنانية في طمس الجريمة، قرر العاهل السعودي تذكير أشقاءه اللبنانيين بعواقب الانحياز لمصر والعداء للمملكة. عقاب لبنان أتى عبر قيام المملكة بسحب الودائع السعودية. بعدها، بادرت الكويت والتي كانت تملك 19 في المئة من المصرف المركزي إلى سحب ودائعها. انهيار بنك «انترا» لم يكن فقط صفعة للاقتصاد اللبناني، بل أيضا ووفق الكثيرين، كان أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
أما اليوم، فإن السعودية، كما في عهد فيصل، لا تبغي معاقبة «حزب الله» كونه يدير اقتصادا أسودا خاصا به، بل تطمح إلى توجيه رسالة إلى «العهد القوي» الجنرال عون والذي «بتكليف غير شرعي» أوعز الى وزير خارجيته وصهره جبران باسيل الدفاع عن المشروع الإيراني وسحب لبنان من الحضن العربي عبر خطوات عدة تمثلت بالانحياز الواضح لإيران في الجامعة العربية.
تجاهل عون والحريري تصريحات الوزير ثامر السبهان الذي صارح اللبنانيين في شكل غير مسبوق بعواقب الجنوح تجاه إيران، وعدم اتخاذ عون موقفا ولو غير صادق يعبر عن حياد الدولة اللبنانية، جعلا الأزمة الحالية حتمية. لا السعودية ولا حتى الشعب اللبناني متوهمين بأن نزع سلاح الحزب بالقوة ممكن، فإن أي اقتراح في هذا السياق لا يختلف عن المشروع الانتحاري الذي يرى بأن السماح لمشروع «قومجي» ناصري أو مشروع مذهبي شعوبي قد يأتي على أي من الاطراف اللبنانية بأي خير.
في مقابلة الحريري جواب واضح للخروج من الأزمة الحالية وهو النأي بالنفس عن الصراع الإقليمي والامتناع عن استبدال المفوض السامي المصري السفير عبدالحميد غالب بمستشار المرشد علي أكبر ولايتي. وطرح الحريري ببساطته، يكشف حقيقة مؤلمة تجاهلها اللبنانيون وعلى رأسهم أسرى قرار انتخاب عون للرئاسة، وهي أن ثمن الجلوس على كرسي بعبدا «لا يدفع نقدا» بل على دفعات وقد يؤدي في آخر المطاف إلى إفلاس لبنان المالي والأخلاقي، في سيناريو «شكسبيري» قد ينهي مسرحية العهد ورهانه على تحالف الأقليات.
من حيث الشكل أتت استقالة الحريري من الرياض كسابقة مخالفة لبروتوكول السياسة والدستور الذي يشترط مثول رئيس المجلس أمام رئيس البلاد وتقديم الاستقالة وموجباتها، مطلقا بذلك الآلية الدستورية لتشكيل حكومة جديدة. الجزء الأكبر من الذين استغربوا شكل الاستقالة ركزوا على توقيتها وعبروا عن قلقهم إزاء سلامة الحريري الذي ظهر عبر التلفزيون «متجهم الوجه وقلقا»، في حين شن الجزء الآخر أي جوقة الزجل التابعة لمحور الممانعة حملة على المملكة معتبرة أن الاستقالة باطلة كونها أتت تحت الإكراه، معلنة أن الحريري هو «أسير مواقف المملكة» التي «وضعته تحت الإقامة الجبرية». ورغم مرور أسبوع على «الاعتقال» وقيام الحريري بالعديد من الخطوات العلنية التي تفند تلك المزاعم، من بينها حلقة حوارية متلفزة ومباشرة على الهواء، تستمر سردية الاعتقال من قبل «حزب الله» وحليفه المسيحي الرئيس ميشال عون الذي اجتهد بتفسير مقابلة الحريري بأنها محاولة يائسة من السعودية لتلميع صورته، ما دفع بالرئيس عون «حامي الدستور» إلى إعطاء تعليمات إلى تلفزيون لبنان الرسمي بحجب المقابلة. خطوة لم يتردد عدد من التلفزيونات الأخرى الممانِعة التي استجدّ حبها للحريري بتطبيق قرار الرقابة من دون الأخذ في الحسبان أيٍّ من معايير المهنة وحرية التعبير عن الرأي.
منذ 18 ساعة
الأخطر من الشعوذة الإعلامية هو حالة نكران الدولة اللبنانية ورئيسها بأن استقالة الحريري ومضمونها لم تأتِ فقط بسبب أعمال «حزب الله» العدائية التي بدأت في العهد السابق بل أيضا لأن الدولة اللبنانية، وبعد أن شرّعت ترسانة الحزب، سمحت له بأن يقوم بتسليح الدولة اللبنانية وتحويلها إلى منصة صاروخية معنوية وعسكرية للنيل من السعودية وعدد من الدول العربية الأخرى كالكويت والإمارات العربية المتحدة.
اعتراض السعودية واستقالة الحريري ركزا على عدم جواز مشاركة «حزب الله» في أي حكومة كونها «الذراع الإيراني ليس في لبنان فحسب بل في البلدان العربية». هذا الموقف السعودي و لو بلسان الحريري ليس بجديد، فخلال عهد الرئيس السابق العماد ميشال سليمان كانت تلك الذراع كما هي الآن منغمسة بالصراعات المذهبية بفارق جوهري وحيد أن الدولة اللبنانية عبر تبنيها إعلان بعبدا رفضت - ولو بالكلمة فقط - تغطية المغامرات الشعوبية المعادية للعرب. فالرئيس سليمان، وعبر موقفه الشجاع، أرسل رسالة واضحة إلى العرب والمجتمع الدولي مفادها أن الدولة اللبنانية ورغم ضعفها ما زالت تصارع سيطرة «حزب الله» عليها.
منذ نشوئها ورغم ما يحيطها من مشاكل إقليمية، نجحت الدولة اللبنانية في القدرة على تفادي الوقوع في الهاوية عبر إعلان الحياد في المسائل الخلافية ذات الطابع الإقليمي بدءا من مشروع عبد الناصر والحرب الباردة. هذا الحياد أعطى الاقتصاد اللبناني فرصة النمو والتحول نحو الاقتصاد الخدماتي المحلي والإقليمي والذي استفاد من الحروب والانقلابات المتعددة التي كانت تعصف بالمنطقة. مقتل الدولة اللبنانية أتى عندما قام بعض أركانها بالتذاكي ومحاولة المراهنة على طرفي الصراع... حركة أدت الى معاقبة لبنان اقتصاديا في واقعة تشبه إلى حد بعيد الورطة التي يواجهها لبنان حاليا.
في أوج الصراع بين الملك الراحل فيصل والزعيم جمال عبدالناصر قام الأخير بالتورط في الصراع اليمني إلى جانب الثوار الجمهوريين الذين أرادوا الإطاحة بالنظام اليمني الملكي المتحالف مع السعودية. خطوة أدت الى تورط عبدالناصر الطامح إلى إبراز قوميته العربية المستجدة على الساحة الإقليمية. الدعم السعودي للملكيين وعوامل محلية عدة أدت إلى هزيمة عسكرية مصرية تمثلت بخسارة مصر الآلاف من قوات النخبة المظلية.
إزاء ذلك، قرر عبدالناصر الرد على الملك فيصل في بيروت، فأمر المخابرات المصرية بالتحضير لاغتيال أحد أبرز الصحافيين المعارضين للظاهرة الناصرية، صاحب ومؤسس جريدة «الحياة» اللبنانية كامل مروة. مروة الصحافي الشيعي وابن جبل عامل في الجنوب اللبناني، رافق مسيرة الحاج أمين الحسيني التحررية مما أعطاه الشرعية للتشكيك في المشروع القومي لعبدالناصر. مشروعٌ، حسب مروة وأقرانه، يخفي رغبة جامحة في السيطرة على المشرق وفرض نظام بوليسي يشبه الجمهورية المتحدة بشقها السوري تحت حكم السفاح عبدالحميد السراج. مقتل مروة في مكتبه في ربيع سنة 1966 على يد «شبّيح» محلي وعضو في التنظيم الناصري كان رسالة واضحة للملك فيصل بأن عبدالناصر هو الآمر الناهي في شؤون المنطقة.
في بادئ الأمر، امتنع الملك فيصل عن اتهام الدولة اللبنانية ورئيسها شارل حلو، ولكن مع انكشاف خيوط الجريمة ودور الدولة اللبنانية في طمس الجريمة، قرر العاهل السعودي تذكير أشقاءه اللبنانيين بعواقب الانحياز لمصر والعداء للمملكة. عقاب لبنان أتى عبر قيام المملكة بسحب الودائع السعودية. بعدها، بادرت الكويت والتي كانت تملك 19 في المئة من المصرف المركزي إلى سحب ودائعها. انهيار بنك «انترا» لم يكن فقط صفعة للاقتصاد اللبناني، بل أيضا ووفق الكثيرين، كان أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
أما اليوم، فإن السعودية، كما في عهد فيصل، لا تبغي معاقبة «حزب الله» كونه يدير اقتصادا أسودا خاصا به، بل تطمح إلى توجيه رسالة إلى «العهد القوي» الجنرال عون والذي «بتكليف غير شرعي» أوعز الى وزير خارجيته وصهره جبران باسيل الدفاع عن المشروع الإيراني وسحب لبنان من الحضن العربي عبر خطوات عدة تمثلت بالانحياز الواضح لإيران في الجامعة العربية.
تجاهل عون والحريري تصريحات الوزير ثامر السبهان الذي صارح اللبنانيين في شكل غير مسبوق بعواقب الجنوح تجاه إيران، وعدم اتخاذ عون موقفا ولو غير صادق يعبر عن حياد الدولة اللبنانية، جعلا الأزمة الحالية حتمية. لا السعودية ولا حتى الشعب اللبناني متوهمين بأن نزع سلاح الحزب بالقوة ممكن، فإن أي اقتراح في هذا السياق لا يختلف عن المشروع الانتحاري الذي يرى بأن السماح لمشروع «قومجي» ناصري أو مشروع مذهبي شعوبي قد يأتي على أي من الاطراف اللبنانية بأي خير.
في مقابلة الحريري جواب واضح للخروج من الأزمة الحالية وهو النأي بالنفس عن الصراع الإقليمي والامتناع عن استبدال المفوض السامي المصري السفير عبدالحميد غالب بمستشار المرشد علي أكبر ولايتي. وطرح الحريري ببساطته، يكشف حقيقة مؤلمة تجاهلها اللبنانيون وعلى رأسهم أسرى قرار انتخاب عون للرئاسة، وهي أن ثمن الجلوس على كرسي بعبدا «لا يدفع نقدا» بل على دفعات وقد يؤدي في آخر المطاف إلى إفلاس لبنان المالي والأخلاقي، في سيناريو «شكسبيري» قد ينهي مسرحية العهد ورهانه على تحالف الأقليات.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي