مثقفون بلا حدود

التونسي المنجي بوسنينة... رائد العمل العربي المشترك (4 من 6)

No Image
تصغير
تكبير
وحينما ننادي بالابتعاد عن الكم والتلقين والحفظ وتكديس المواد على الطالب، ونطالب بالاعتماد على الكيف والفهم ليتسنى للطالب الإبداع وإعمال العقل، يكشف لنا الدكتور التونسي المنجي بوسنينة، بعض المعوقات التي قد تحول دون تحقيق ما نصبو إليه وهو في الوقت ذاته يعالج هذه المعوقات بتذليل الصعوبات والعقبات التي قد تعترض سبل تحقيق الكيف، حيث يقول: «ولا بد من الاعتراف بأن تحقيق هذا الهدف في تحسين الكيف لا يكون سهل المنال في كل الأوقات والأماكن لأسباب مادية أحيانا، وأخرى نتيجة الكم الهائل من الطلاب. كما قد يعود الأمر كذلك إلى افتقار مؤسسات التعليم العالي إلى هياكل متخصصة يمكن أن تنهض بعمليات التطوير والتحديث، وإلى غياب نظم الجودة ومقاييس عملية التقويم» أ.هـ.

أما في كتابه (مدارات - 2003) الذي ترجم إلى الفرنسية ((Fenêtres sur l’avenir- Tunis 2005، فقد ركّز بوسنينة على دور الحضارة العربية الإسلامية في إثراء الحضارة الكونية. وبعد أن قدم عرضا مشوقا عن انفتاح الإسلام على الحضارات الأخرى منذ العصر الأموي والعباسي، وما اكتنف هذين العصرين من معوقات لما أسماهم بـ «القبليات الذهنية» التي ترى في الحضارة اليونانية خطرا على الحضارة الإسلامية بمنظورهم الضيق، ثم تحدث عن النقل والترجمة - ولا سيما - من الحضارة الإغريقية القديمة.

وفي النهاية خلص إلى النتيجة الآتية قائلا: «ونخلص مما أسلفنا إلى أن الحضارة العربية - في جوهرها - ملتقى عبقريات مختلفة وهي نسيج متعدد الألوان لم يُستثنَ أحدٌ من الإسهام في صنعه ولم يُلغَ لونٌ من طيفه، فهي بالتالي كونية المنشأ، شاملة الأبعاد، متفتحة في غير وجلّ، آخذة باستمرار في غير تردد... وباعتبار كونية منشئها فإنها كونية المصير، إذ أعطت للدنيا دون حساب كما أخذت عنها من دون تقتير. ومما هو متداول في أدبيات الغالبة ولا يحتاج هنا إلى التذكير به تفصيلا أن أوروبا مدينة في نهضتها للحضارة العربية وهو أمر لا شك فيه. غير أني أؤكد مرة أخرى إعادة النظر في هذه النقطة من المنطلق المنهجي نفسه الذي تناولنا به نقطة تكون عظمة الحضارة العربية وأن نسائل هذا الإشكال حسب متطلبات ما سميناه بالقبليات الاستباقية وهو ما يستوجب التذكير ببعض الوقائع؛ وأول تلك الوقائع الجديرة بالتذكير أن أوروبا لم تترجم علم العصر وهو عربي إغريقي أصلا، إلى اللاتينية انطلاقا من اللغة العربية لأنها كانت تجهل الإغريقية» أ.هـ.

أما «حوارات - 2004»، فهو كتاب شامل جامع لفكر بوسنينة؛ وعبارة عن مجموعة حوارات صحافية لعديد من المجلات والصحف العربية والعالمية. وقد اعتمد بوسنينة تارة الإجابات المقنعة وتارة أخرى يجيب إجابة مباشرة وكثيرا من الأحايين يعتمد في إجاباته الشرح المفصل، ومفصصا طريقة السؤال المطروح ولا تخلو إجاباته من نظرة فلسفية عميقة لمعترك الحياة اليومية؛ ولا شك أن هذا الكتاب ذو قيمة كبيرة، لأنه يمثل عصارة فكر الرجل من خلال تجربة ذات باع طويل لأطياف المجتمع المعاصر.

ولعل الذي يميز بوسنينة اعتناقه مبدأ العمل الجماعي والتعاون مع الآخر، فلا مركزية في اتخاذ القرار، ولا تفرد بالرأي، ولا للتعصب الإقليمي في إنجاز المشاريع وتفعيل أنشطتها، ولا إقصاء للآخر؛ وقوام اختياراته الشخص المناسب في المكان المناسب، لا واسطة ولا محسوبية ولا مجاملة لتعزيز موقفه وتثبيت مكانته، بل كعادته دائما وأبدا يسعى سعيا حثيثا لاستقطاب العلماء والمفكرين لإثراء العقلية العربية والعالمية، وها هو يعمل جاهدا مع المنظمات الأخرى ليثري- أيضا- المكتبات العربية والعالمية من خلال مؤلفات المنظمة الغزيرة والثرية - ولا سيما - في عهد مديرها السابق العلامة السوداني الدكتور محي الدين صابر، والأديب العراقي الدكتور مسارع الراوي، والمفكر الجزائري الدكتور محمد الميلي، وهو العصر الذهبي للمنظمة، أو قل هو عصر العمالقة، ورواد الفكر والثقافة؛ فالمنظمات تقاس بنتاجها، وإن صح القول والتعبير فإن مكتبة المنظمة إنما هي مكتبة محي الدين صابر.

لقد سار بوسنينة على خطى من سبقه فاهتم بالتأليف، قدم مؤلفات عديدة وشجع وحفز على التأليف؛ ومن جملة كتبه القيمة والثرية «منارات الحضارة العربية الإسلامية»، وجاء تقديمه له بالآتي «وفي هذا السياق اندرج كتاب منارات الحضارة العربية الإسلامية الذي أعدته المنظمة بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، بمناسبة التئام معرض فرانكفورت للكتاب 2004 ونزول الثقافة العربية ضيف شرف على هذا المعرض الدولي المتميز؛ وقد أريد من هذا الكتاب القيم الأنيق، والذي صدر باللغتين العربية والألمانية، في انتظار ترجمته إلى لغات أخرى، أن يعرّف بجوانب مضيئة من مسيرتنا الحضارية في علاقتها بالآخر وما قدمته من إضافات إلى الحضارة الكونية في نطاق جدلية خصبة تقوم على الأخذ والعطاء بين الحضارات باعتبار أن هذا التبادل المتواصل لا يزال المحرك الجوهري لمسيرة الإنسانية منذ القدم. وكان الصدى الطيب الذي لاقاه كتاب (منارات) عند صدوره منطلقا لعقد ندوة علمية، في مايو 2005 بمقر اليونيسكو في باريس، اشتركت في إقامتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية بهدف التعمق في بعض من الجوانب المضيئة في الحضارة العربية والإسلامية، وذلك من خلال قراءات علمية رصينة كلفت بها نخبة طيبة من المفكرين والباحثين العرب وغير العرب في سياق حواري بين الثقافتين العربية والغربية» أ.هـ.

لقد فطن بوسنينة، بذكائه الخارق إلى أن المنظمات تقاس بنتاجها الأدبي والمعرفي؛ فشجع على الكتابة والتأليف وكان خير قدوة لنا؛ فلم يسمح للعمل الإداري أن يسرق منه الوقت بل عمل بخطوط متوازية لا يؤثر بعضها على بعض، أدار المنظمة لمدة ثماني سنوات باقتدار لا مثيل له، واستطاع أن يؤلف أكثر من عشرة كتب خاصة بفكره، ونشـّط دائرة البحوث والنشر والتوزيع، فترك لنا رصيدا معرفيا مرصعا باسمه.

* كاتب وباحث لغوي كويتي

fahd61rashed@hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي