الطابور الذي وَقَفَ أمام وسائل الإعلام معتذراً من الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله لم يكن تفصيلاً، أو مجرّد سَحْبِ كلامٍ قيل في لحظةِ غضبٍ أو لحظةِ حقيقة. كذلك لم يكن التماهي المكرَّر مع حذاء نصرالله تعبيراً عن عشْقِ العودة من لحظة التخلّي. الأمران لهما في حسابات الكيان المُمانِع وَقْعٌ آخر مرتبطٌ بِهالةِ القُدْسِيّة وخطوطها الحمر، وهي الهالة التي تشكّل العمود الفقري للسياسة والتعبئة... وتسليم النفس جسداً وفكراً.
في مستوى من مستويات التحليل، يتساوى نمط السيطرة على السلوكيات في «حزب الله» مع مثيله في «القاعدة» أو «داعش» أو «الجهاد»، بغضّ النظر عن تَبايُن الدوافع والأهداف. نحن هنا أمام مسألةٍ «تقنية» بحتة تتعلّق تحديداً بوسائل تغييب العقل وتطويع الإرادة وتحويل المرء إلى «روبوت» بشري يَنْقُل شعار «بالروح بالدم» من إطاره اللفظي الى العملي.
منذ نعومة أظافرهم، يتلقّى الطلاب في مدارس «حزب الله» جرْعاتٍ من التعبئة التدريجية التي تجعلهم كباراً يرتضون شغل وظيفةِ الرصاص في البنادق أو رؤوس الصواريخ في القاذفات. وكي يحصل ذلك، لا بدّ من مساحاتٍ عازلة مع المحيط (بمدنيّته وعصْريته وفوضويّته) تتّسع مع كل عام يتخطّونه. هنا تملأ المساحات مفاهيم دينية مجهّزة خصيصاً لغسْل الأدمغة بما فيها من رواياتٍ وأساطير وخرافات يتمّ تطويعها وتظهيرها حسب «الآخر» المطلوب معاداته أو التعبئة ضدّه.
ينشأ الطالب والنصير والصديق والملتزم على أن الحقائق والحلول عمادُها الفعلي ما يقدّمه المذهب أو المُعْتَقَد المنبثق عنه، وأن هناك مَن تمّ تسخيرهم واختيارهم حرّاساً لهذا المذهب، وأن لهؤلاء «كرامات» تتجاوز الدنيا إلى الدين لكنهم لا يظهرونها، وأنهم مرجعية هنا ووكلاء هناك ونواباً لنواب الأئمة إذا أَحْسنوا البلاء، ولذلك تصبح طاعتُهم إيماناً ومعصيتُهم كفراً. ثم يختلط السياسي بالديني فتتسهّل المهمة لأن البُعد السياسي وحده لا يشحن هِمّةً ولا يطلق عزيمةً ولا يسمح بإعمال الفكر ولو من باب التبيّن.
«المُقَدَّس» هنا هو جسر العبور إلى تسليم العقل والجسد. ففي بلدٍ يتنفّس السياسة مع الهواء ويتعايش مع التعدّديات حتى وإنْ كانت نافرة أو متخاصمة، لا يمكنك إغراق المرء في وحدانية التفكير والتدرّج صعوداً في الخضوع إلا من خلال الترهيب بما يمكن أن يَحْدُث في حال الخروج من أسوار الطاعة. والطاعة لها أسبابها غير الدُنْيوية المرتبطة بالخوف من عصيان العمامة المُحَصَّنة بالوكالة، ولذلك فعندما يُقال لك قاتِل لتحمي قرى لبنانية في سورية فإنك تَفعل من دون أن تُناقِش، ثم عندما يُقال لك إن الموضوع ليس موضوع قرى بل لحماية المَراقِد كي «لا تُسبى زينب مرتيْن» فإنك تَفعل، ثم عندما يُقال لك إن القصة قصة فكّ الحصار عن دمشق كي لا يَسقط بشار الأسد فإنك تَفعل، ثم عندما يُقال لك إن القصة مواجهة تكفيريين فإنك تَفعل. وعندما يُقال لك اذهب الى العراق أو اليمن فإنك تَفعل، وعندما يُقال لك فَخِّخ هنا أو اقتل هنا أو فَجِّر نفسك هنا فإنك تَفعل.
ببساطةٍ شديدة، يمكن أن يصبح المواطن السوري المُعْتَرِض على نظامه عدواً بقدر ما هو الإسرائيلي عدو، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللبناني الشريك في الوطن، واليمني المُعارِض للحوثيين، أو الشيعي المُعارِض للإيرانيين في العراق، أو السعودي أو الإماراتي أو البحريني. لأن مَن قرر ذلك يتمتّع بـ «هالة قُدْسِيّة» لا يجوز حتى التفكير في معنى قراراته، فربما احتاج الأمر للاستغفار من الوَسْوَسة والإفصاح وإعلان التوبة.
أما المغالاة المقصودة والموجَّهة في الحديث عن تفدية الأحذية، فهي تحديداً من متطلّبات استقامة الهالة وفق ثقافة «حزب الله» والتنظيمات المُشابِهة له. فكلما تطرّفتَ تنزيلاً للأقدام تطرّفتَ تصعيداً للهامات... ولهم في التراث من القصص المتبرّكة بالنعال والسيوف وفتات الشعر والثياب، وحتى البصق واللعاب وغيرهما، مرتكزات كثيرة يركنون إليها كلما استدعى التفسير ذلك.
أما مِن وميضِ ضوءٍ في هذه البيئات؟