نقد / الرواية... تكشف الواقع المؤلم في «فنتازيا» ساخرة

«حريم الديك» ليوسف الجلاهمة...إسقاطات رمزية تعزف على أوتارٍ عارية

تصغير
تكبير
اللهجة الكويتية في الرواية أعطت للمؤلف مساحة واسعة في اختيار مفرداته وعباراته

الأسلوب اتسم بروح الحداثية التي يختلط فيها الواقع بالخيال

المؤلف استخلص رؤية عمله الواقعية من مضامين غير واقعية

سخرية الجلاهمة تجعلك في اشتباك فكري مع الرمز
تأخذك رواية «حريم الديك» للزميل نائب رئيس مجموعة «الراي» يوسف أحمد الجلاهمة، إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه الواقع، في سياق روائي يبدو- في ظاهره- ساخرا أو عبثيا، بينما يخفي في عمقه الحزن الذي يلامس كل فرد عربي، بفضل ما تتضمنه الرواية في متنها من عزف متواصل وغير مسبوق على الأوتار العارية، تلك التي تكشف هموما تراكمت... بفعل تاريخ عربي شهد الكثير من القوة والضعف.

فالرواية من أولها إلى آخرها... تجنح- في ما تجنح- إلى السخرية، ولكنها أي سخرية؟!، إنها السخرية التي تجعلك في اشتباك فكري مع الرمز... ومع الإسقاطات السياسية والاجتماعية والثقافية، تلك التي تتدفق صورا ومشاهد، تنقلك من زمن بعيد إلى آخر قريب، ومن مكان تعيش تفاصيله إلى آخر تعيش أحداثه من خلال ما تتواتر على أرضه من متغيرات وأحوال، وفي ظل هذه السخرية... لا تدري هل تضحك على ما تتضمنه عبارات الرواية من خفة ظل وقدرة على تجريد اللحظة من معانيها، لتصير سخرية لاذعة كطعم العلقم، أم تبكي لأنك تقرأ نفسك وحياتك في فصولها وبين سطورها؟!

والرواية غير مقسمة إلى فصول، ولم تلتزم بالكلاسيكية في تناول الأحداث... إلا أنها حافظت على «العقدة والحل»، مثلما حافظت على روحها الحداثية، التي يختلط فيها الواقع بالخيال، مع استخلاص الفكرة الواقعية من مضامين غير واقعية، والاشتباك مع الحياة بمعان متواصلة مع أحوال الأفراد في أي مجتمع، والذكاء في تناول قضايا حيوية وشائكة من خلال الرمز والسخرية.

كل ذلك أسهم في زيادة المتعة التي يتحصل عليها المتلقي، فهو يقرأ الواقع بكل تفاصيله، من خلال خيال هو أصلا غير موجود في الواقع، وهذه ميزة مثمرة وبناءة استطاع المؤلف تحقيقها في عمله الروائي الجذاب.

فالمؤلف أراد أن يقول كل شيء بحرية مطلقة ومن دون أن تتعرض فكرته للتوقف أو التواري خلف المجاز المفتعل، أو التورية المصطنعة، فأسس بلادا يعيشها صنف من الطير «الديكة والدجاج»، وهذا الصنف تختلط في مساراته الحياتية، الخيال مع الواقع في منظومة رمزية، ساهمت في قدرة المؤلف على التحرك بروايته وفق ما تتطلبه الأحداث من تواتر واستمرار.

ومن اللافت أن الجلاهمة ارتكز في تضمين رؤيته على السخرية، التي جاءت على ألسنة شخوص روايته، وهي- بكل تأكيد- شخوص أخذ المؤلف أصواتها من عالم الطير خصوصا «الدواجن»، مع وضعها في دوائر الإنسان، الذي يتعايش معها في «فنتازيا» عبثية تتفجر رمزا.

وهذه السخرية ظهرت بشكل كامل في كل الرواية بدءا من العنوان «حريم الديك»، وهو عنوان يشي بسخرية اجتماعية من سيطرة عالم الذكور على عالم الإناث، غير أن الأحداث قد تحيد عن هذه الفكرة، وتتفجر بأفكار أخرى سياسية واجتماعية أكثر عمقا وتأثيرا، في ما تضمنت السيرة الذاتية- التي استقلت بمساحة الغلاف الأخير تحت عنوان «المؤلف في سطور»- السخرية من أولئك الذين يكثرون في سيرهم الذاتية من امتلاك العضويات في نواد وجمعيات مختلفة، في ما لم يذكر البتة سيرته الذاتية الحقيقية.

ولم تسلم من السخرية في الرواية إلا الإهداء: «إلى زوجتي وأبنائي... مع خالص الشكر لوجودكم في حياتي»، وهو إهداء يؤكد على التصاق المؤلف بأسرته، والتحامه معها في حب ليس له من بداية أو نهاية.

واستخدم المؤلف- في كتابة روايته «اللهجة الكويتية الدارجة، والتي أعطت له مساحة واسعة في اختيار مفرداته وعباراته التي تتسم بالسخرية، بينما قلّ استخدام اللغة العربية الفصحى، وهذا الأسلوب الذي اتبعه المؤلف في روايته، أسهم في ترتيب الأحداث في تناسق أدبي مفعم بالحيوية والحركة، ومتناغم مع الروح المحلية الكويتية، بما يضمن للرواية انتشارها والاستمتاع بما تحتويه من مفردات كويتية شيقة جاءت في أحداث ساخرة».

والرواية في تواتر أحداثها تحكي عن سلطان يحكم بلدا من الديوك والدجاج اسمه «السلطان ذو العرف المايل»، والذي يفتقد لمقومات الحاكم العادل ومن حوله وزراء لا يتمتعون بالكفاءة الضرورية لتحقيق مصالح الشعب، ويترأس مجلسهم «الديك الحبشي»، الذي لا يحسن الكلام، ولا يقل عنهم رعونة.

ويتمكن «السلطان ذو العرف المايل» من القضاء على حركة انفصالية قامت بها حظائر «بني فروج»، وأخذ السبايا من الدجاج بينما تم قتل الديكة «الانفصاليين»، ومن ثم يطمع السلطان في السبايا من الدجاج الذي يتميز بالجمال، بينما دفع بالدجاج الدميم إلى وزرائه، مما ترك انطباعا سيئا في نفوس وزرائه والقادة.

ويحدث أن يدمن «ديك الحوطة» على الشرب من مياه المجاري «الخمور»، لأن السلطان رفض التوسط له لدخول الكلية العسكرية ليصبح ضابطا، ليموت بـ «جرعة مجاري» زائدة، تاركا زوجته «ريحانة» الحامل في أيامها الأولى، فتقرر أمه «الداية» الانتقام منه... وهي المسؤولة عن تزيين حريم السلطان وتعطيرهن وتوصيلهن إلى مخدعه، وفكرت في حيلة ذكية لجعل حفيدها الذي تحمل به «ريحانة» زوجة ابنها المتوفي، ليكون ولي العهد، فقامت بتزيين ريحانة والإيحاء للسلطان أنها من دجاج «الفرنجة» السبايا، بينما أخفت عنه حقيقة حملها، وبالفعل تم لها ما أرادت وتزوج السلطان ريحانة، بينما تزوجت أخته «روح الورد» من قائد الجيش «ديك البراري»، وتحدث مفارقات ومؤامرات تؤدي لمقتل أم السلطان على يد الخادمة «أم طوق»، التي قتلت أيضا الداية بإيعاز من ريحانة، لتُقتل «أم طـــــوق» بــــيد ريحانة نفسها، كي لا يكون هناك من يكشف سرها.

وتمضي الأحداث ليثور الشباب على السلطان الذي يريد تغيير الدستور كي يسمح لولي العهد- «ابنه» المزعوم- حكم البلاد من بعده من دون الوصول إلى العمر المحدد في الدستور، وقاد هذه الثورة الشاب «الماك جكن»، في ساحة «الدود»، وبذكاء يضحي السلطان برئيس الوزراء «الديك الحبشي» ويكسب ود الشعب، ويعين الشباب في المناصب الرفيعة، ويختار السلطان «ديك البراري» قائد الجيش وزوج ابنته ليتولى منصب رئيس الوزراء، كي يختار كل الوزراء في المجلس من زملائه وأقاربه العسكريين، ثم يقبض عليه الحرس وتتم تصفيته. بينما كانت زوجته أخت السلطان حاملا.

وتدور الأحداث ليختار السلطان رئيس وزراء من الشباب «الماك جكن»، لتنجب زوجته ريحانة بنتا «دجاجة» اسمتها «كسر الخواطر»، فيغضب ويحس بخيبة أمل لأنه يريد ديكا ليرث حكمه، في ما تنجب أخته ولدا أسمته «ديك البراري الابن»، ليحدث الصراع بين زوجته وأخته.

ويتزعم ابن رئيس الوزراء «الديك الحبشي»- الذي عزله السلطان- حركة انفصالية، فيقوم السلطان بتحريك جيشه إليه، وتدور المعركة بقيادة ابنته «كسر الخواطر» بمعاونة ابن عمتها «ديك البراري الابن»... اللذين يرتبطان بقصة حب، ليكون في النهاية النصر لهما، ويصاب السلطان «بضربة منقار» قاتلة في ظهره، جعلته يوصي بأن تحكم البلاد ابنته، التي تنازلت بدورها عن الحكم لابن عمها، بعد زواجهما، الذي باركه السلطان.

إنها حكاية رشيقة تنقلك من حالة إلى أخرى في يسر وسهولة، من خلال الرمز والإسقاط، كي يبث المؤلف رؤيته، ومشاهده، وأوجاعه، التي استهلكت سخريته، واستحوذت على كل ما تتضمنه الرواية من أحداث، بحاجة إلى قراءة متأنية، كي تُفهم معانيها، وتفك «شيفرة» رموزها، وتحل ألغازها التي تشي بقدر وفير من الحرفية في تناول قضايا كبيرة من خلال حكاية، ربما تبدو للقارئ وكأنها بسيطة، ولكنه حينما يتعمق فيها، سيجد أنها غارقة في أفكار ورؤى كثيرة ومتشعبة.

وفي الرواية نقد للتاريخ العربي الذي استوعب في أحداثه الدماء المسالة والسبي والحرملك، كما انتقد وزارات الدول العربية خصوصا الإعلام بكل ما فيه من تضليل، وكذلك الطاقة «طال عمرك أي واحد يصير وزير هذي الوزارة يصير غني»، وكذلك نقد الجيوش العربية «يمة اللي يصير الجيش معاه دايم يكسب، وأنا أحب أكسب»، وتحدث عن «الواسطة»، والحرية الممنوحة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مثل الانستعرام وخلافه، ومحاولة تقليد الغرب في كل كبيرة وصغيرة، وكيد النساء الذي يفوق الوصف، والمؤامرات التي لا تنتهي، كما تحدث عن الربيع العربي، والاستعانة بالشباب في المناصب العالية، واستبعاد أصحاب الخبرات والتجارب، وبصمة العمل، والطمع في الحكم:«كل واحد مستعد يقتل أخوه عشان الحكم»، والمثلية التي انتشرت بين الشباب والفتيات هذه الأيام، والعلاج بالخارج، وتمسك الحكام العرب بالحكم حتى الرمق الأخير، والسرقات والمحسوبيات وتطبيق القانون على الفقراء، وعدم محاسبة المتنفذين، وسرقات المناقصات والميزانيات... وغير ذلك من القضايا الحيوية، التي تناولها الجلاهمة في روايته، وهي قضايا لم تأت بشكل مباشر، ولكنها أتت من خلال الاسقاط والرمز، وبالتالي كان وقعها على النفس مؤثرا.

ولا يمكن وضع أحداث الرواية في بلد عربي بعينه... وذلك بسبب ما تمتعت به الأحداث الساخرة من تنقلات فجائية في بعض الأحيان، ومتوقعة في أحايين أخرى، لترى في كل حدث على حدة بلدا عربيا، وفي حدث آخر قد لا تراه إلا في بلد عربي بعينه، في ما توزعت المشاهد في ما يشبه الفسيفساء على الواقع المعاش والواقع الذي مضى، من أجل ربط الأفكار والأحداث والأحوال بعضها ببعض، ومن ثم الوصول إلى حالة محددة مفادها أن الفساد مستشر، ولا يمكن القضاء عليه إلا من خلال البعد عن الشخصنة والمصلحة ضيّقة الأفق.

هكذا تمتعت الرواية بأسلوب ساخر «الكوميديا السوداء» وبـ «فنتازيا» مؤلمة، رغم خفة ظلها، ومفردات مأخوذة من العامية الكويتية ومرونتها في فضح الأحوال، والكشف عن مكامن الألم، وأسلوبها الذي يحمل في مفرداته السرعة والبطء، حسب ما تقتضيه الأحوال والـــــظروف، وحسب ما يتطلع المؤلف إلى بثه في ذهن المتلقي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي