على طاولتها «جرْدة» ثقيلة لأضرار التسوية السياسية في عامها الأوّل

بيروت تستعدّ لإطلاق «مبادرة وطنية» بـ «لا كبيرة» لإلحاق لبنان بإيران

تصغير
تكبير
الحِراك في اتجاه البحث عن إطارٍ لمعاودة السويّة إلى الحياة الوطنية سابِق للحركة السعودية
... في واحدةٍ من طَبَقات أحد فنادق الأشرفية في بيروت، المطلّ بـ «حنينٍ» وربما بـ «أنينٍ» على تركةِ «14 آذار» وأمانتها، إجتمع أفرادٌ جاؤوا من «غرفٍ بنوافد كثيرة»... جَلَسوا حول طاولةٍ مُمَدَّدَةٍ فوق صفيحِ تجارب حُلوة ومُرّة غَلَبتْها الخيبات... فصحيحٌ أن لبنان أصغر من أن يُقسَّم أو يَتَقَسَم أو يُتقاسَم، وأنه أكبر من أن يؤكل أو يُبتلع أو يُهضم، لكن الأصحّ أن أثماناً باهظة من دمٍ وأحلامٍ وبُنيانٍ ورفاهية تَدْفَعها أجيالٌ تلو أجيال لـ «تأكيد هذا المؤكد» في بلادٍ كأنها تَخْتَبر معناها كلّ يوم.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن المسافة بين فندقيْ «لوغبريال» الأشرفية و«البريستول» في فردان أبعد من الجغرافيا، وتمتدّ إلى زمنيْن مختلفيْن وإن بهواجس واحدة... في «البريستول» امتدّتْ أضلع «القرنة» (لقاء قرنة شهوان) جِسراً وطيداً من مستنقع الشرّ إلى الاستقلال الجديد، فالتقى وضوح البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وإبرتُه والجبل، وحُلم رفيق الحريري وحجْمه الوارف، وكاريزما وليد جنبلاط وجرأته، الى أن خرجتْ سورية بعد 30 عاماً من الوصاية.


فماذا عن «لوغبريال» وزمانه ورجاله؟ ماذا عن الوضوح والحجم والجرأة؟ وماذا عن مشروعِ المواجهة مع وصايةٍ من نوع جديدٍ عنوانها إيران؟... كأنه زمنٌ من ماضٍ لا يَمضي. فأكثرُ الغائبين حضوراً في الردهة الرئيسية وناسها، وفي ممرات العبور الى هنا، وفي زوايا المكان وأحلامِه المُبَعْثَرَة عَقْلُ سمير فرنجية ورحلته إلى أقاصي الآخَر، ثقافةُ هاني فحص وعمامتُه حارِسة أحلام العصافير، نقديّةُ سمير قصير وشالُه المترامي من فلسطين إلى سورية، ديناميةُ جورج حاوي ورحابتُه، جدلياتُ محمد شطح ودماثتُه... هم وسواهم كأنهم الخلفية الافتراضية لـ «فكرةٍ» في طور التحوّل تجربة جديدة.

تَقاسَم صدارة الطاولة الدكتور فارس سعيْد، السياسي الذي لم «يَتَقَوْلب» مع النادي التقليدي لـ «مُياومي» السياسة ومعقّبي المعاملات، والدكتور رضوان السيّد الذي يغادر الظلّ إلى الميدان. وحَوْلها توزّعتْ توليفةٌ من سياسيين ومثقّفين وإعلاميين وكتّاب، جلّهم سنّة غاضبون وشيعة متمرّدون ومسيحيون معترضون ودروز ناقمون وعلمانيّون حالِمون، وعليها «مبادرةٌ وطنية» لصوْن الدستور والدفاع عن الجمهورية وإعادة التوازن وحفْظ العيش المشترك. مبادرةٌ لإطلاق دينامية تنقل الاعتراض من مجرّد موقف عرَضي إلى فِعلٍ جَماعي، همُّه وبلا مواربات، منْع «حزب الله» من الاستيلاء على السلطة، والتصدّي للنفوذ الإيراني، والحدّ من أضرار التسوية السياسية وما أصاب التوازن الوطني من اختلالاتٍ بسببها.

لم يكن للشروع في إطلاق هذه المبادرة «العابِرة للطوائف» علاقة باللقاء الذي كان جَمَع سعيْد والسيّد بوزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان خلال زيارته الأخيرة لبيروت، فالحِراك في اتجاه البحث عن إطارٍ لمعاودة السويّة إلى الحياة الوطنية سابِق للحركة السعودية، ويرتبط بالمحصلة «المخيّبة» لحصادِ عامٍ من التسوية السياسية والتي عاكستْ مبرّراتها، فلم تنجح في وقف انهيار المؤسسات والمجتمع، وانقلبتْ على شعارٍ رفعتْه بنفسها، وهو النأي بلبنان عن الحريق في المنطقة.

كلامٌ كثيرٌ قيل في تقديم «الفكرة» ومناقشة أسبابها الموجبة، في محاكمةِ المرحلة الماضية وإخفاقاتها، وفي فائضِ التحديات الحالية وأولوياتها، قبل تسطيرِ ملاحظاتٍ على مسودّة بيانٍ صيغ بعنايةٍ أَمْلتْها حساسياتٌ ومواءمات كثيرة... أما بعد فـ «مانيفست» سياسي لحركة لا حزبية، تُغادِر الفندق الى الساحات، ولجانُ اختصاصٍ ترسم خريطة طريق، الخطوة الاولى في مسيرتها مؤتمرٌ عام يراد له أن يكون حاضنةً لـ «الروح الجديدة» ورافعةً لعملٍ سياسي غايتُه إنهاض الحال الاستقلالية لحماية مرتكزات المواطَنة والشراكة والدولة على عتبةِ انتخاباتٍ نيابية مفصلية في مايو الـ 2018.

هذه المبادرة - الحركة ليست نسخة منقّحة للحلم المكسور (أي لحركة «14 آذار») لكنها إحدى تجلّيات الردّ على تَحوُّل التسوية السياسية بمشاركةِ «تيار المستقبل» بزعامة الرئيس سعد الحريري و«القوات اللبنانية» برئاسة الدكتور سمير جعجع (الرمزان البارزان في «14 آذار» سابقاً) مصدر اختلالاتٍ قاسية أفسحتْ لـ «حزب الله»، المُمْسِك بـ «الإمرة الاستراتيجية» للدولة، المضيّ في إلحاق لبنان بالمحور الإيراني والتقدّم نحو تبديل قواعد الحكم، متكئاً على وجود حليفه في سدّة الرئاسة، أي العماد ميشال عون.

وأبرز العلامات الفارقة في ديناميّة «المبادرة الوطنية» هو موقفها مما تصفه بـ «أحزاب التسوية»، أي «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية»، فهي لن تكون في مواجهتهما ولا رافعة شعبيّة لملاقاتهما، وهمّها لن يكون تأمين ملاذ لعودتهما، وكأنها تدرك أن خروجهما من التسوية لن يكون أقلّ كلفة عليهما من مخاطرتهما بدخولها، وتالياً فإن الأولوية المطلقة لهذه التجربة الجديدة ستكون لإعادة التوازن إلى لبنان المحكوم بثلاث شرعيات: نظام الطائف، ونظام المصلحة العربية والقرارات الدولية... إنها تجربةٌ يصعب التكهن بمسارها وحظوظها في واقعٍ معقّد ومتحرّك يختلط فيه المحلي المصاب بـ «عمى الألوان السياسي» بالإقليمي الذي يودّع حرباً ليستقبل مشروع حرب.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي