رأس الفساد يكمن في خراب التعليم. فلو صلُح حال التعليم، صلُحت أحوال البلد بأكملها.
أقول هذا الكلام لأن الأخبار التي على صدر صفحات الجرائد ما هي إلا نتائج طبيعية للانحدار المستمر في النظام التعليمي. مثلاً أخبار من قبيل 163 حالة اعتداء على المال العام خلال السنوات الخمس الماضية (ولك أن تتخيل حجم كل صفقة من بين هذه الاختلاسات كالروسية وعصابتها والرجعان والناقلات والداو وهلم جرا)، أو خبر من قبيل فضائح بالجملة لقياديين في الأمن الخاص بفقدان أسلحة وتوريد أغذية واستغلال السلطة. فهذه الأخبار شبه اليومية تمتاز بأمرين مهمين: أنها لا تزال تتوارد ولم تتوقف منذ عشرات السنين، فنفس العناوين ونفس القصص إلا اللهم تغير الابطال والوجوه لا غير. والثاني أن الناس مازالوا يقرؤونها بعدم اكتراث وتجاهل من دون أن يرف لهم جفن ولا أن يحركوا ساكناً!
طبعاً هذا البرود والتكرار بالجرائم لم يأتِ من فراغ، فهذا نتيجة طبيعية لعدم الشعور بالغيرة على الممتلكات العامة والوطن وعدم إدراك حجم الجرائم، وهذا بدوره يعود إلى فساد التعليم وتدهور النظام الأخلاقي لدى أغلبيتنا، فلو حصل هامش ضئيل من فسادنا اليومي في أي دولة تحترم نفسها وأهلها، لوجدناها اشتعلت ووقفت على أظافرها وأصابعها غضباً وحنقاً وحقداً وضغينة على الفساد وأهله ولقلبت الأرض من تحت أرجلهم. لكن ما العمل ونحن لا نسكت عن الفساد فقط، بل وننشره ونقننه ونُضفي عليه صفات أخلاقية وأدبية وشرعية.
وطالما أننا نعيش أجواء الاختبارات النهائية لا بأس لو اخترنا بعض المقتطفات من الواقع الأكاديمي. المثال الأول ضربته قبل أيام عن استخدام الدولة لأجهزة بحث الجيش الأميركي في المدارس لتفتيش الطلبة ولمنعهم من دخول قاعات الاختبار مصطحبين معهم أجهزة الهواتف النقالة لاستخدامها كوسيلة للغش.
الأمر المُلفت قبل يومين اجتمعت اللجنة التعليمية بالوزير الفارس ومعه كادره الوزاري لمناقشة الوضع التعليمي. حينما قرأت عنوان الخبر ظننت أنهم سيدرسون كيفية إنشاء مدارس ذكية، أو رعاية الموهوبين، أو تحفيز المبدعين والمخترعين من طلبتنا الشباب، أو تخصيص ميزانيات لتطوير التعليم بحسب المواصفات العالمية والدول المتطورة بالتعليم كسنغافورة أو فنلندا، أو أي شيء يعنى بالبناء والتطوير والتحسين والزيادة. لم يحصل أي شيء من ذلك، بل المناقشات تركزت فقط على موضوعين أساسيين: الموضوع الأول تسريب اختبارات الثانوية والثاني قضية انتشار الغش! يعني طول الوقت وهم يتحدثون عن ترميم الماضي، ولا شيء حول المستقبل.
تخيّل أننا وبدل عن دفع التعليم باتجاه صعودي ونحو صناعة موارد بشرية تُدير البلد والمؤسسات بالمستقبل وتنحو بها صوب الإنتاجية والتنافسية واستغلال الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة وتنويع مصادر الدخل ونشر السلام وحب الأرض والوطن وتقوية الاقتصاد ومنافسة دول المنطقة في جميع الاتجاهات، بدل من كل ذلك انشغلت أعلى سلطتين بالبلد بكيفية مكافحة الغش وما المطلوب فعله تجاه تسريب الاختبارات!
هذه صورة مأسوية بحق، فمن نتحدث عنهم اليوم هم قادتنا مستقبلاً. لذا من يشتكي اليوم من سوء الإدارة حالياً، وبأنهم لا يفهمون شيئاً، وبأن الفساد مستشرٍ وحالات الاعتداء على المال العام زادت، وأن النفط مازال مصدر دخلنا الوحيد بعد نصف قرن من اكتشاف النفط، هذا الوضع سيكون مع الاسف النسخة المستقبلية لما سنكون عليه بعد عقد من الزمان! فنحن لا نتوقع أن نقطف البلح والرطب والتمر إن كنا نزرع السدرة! فالذي نعاني منه على المستوى الأكاديمي الآن، سنعاني منه مستقبلاً إدارياً وسياسياً، كما نعاني حالياً بسبب فساد التعليم قبل عشرين وثلاثين سنة! فالدكاكين العلمية والشهادات المضروبة ما هي سوى نسخ متقدمة من الفساد التعليمي الماضي، والحبل على الجرار!
hasabba@