في ثمانينيات القرن الماضي، حصلتْ معركةٌ شهيرةٌ بين «التنظيم الثوري الناصري» ويرأسه حسن قبيسي وبين «حركة أنصار الثورة» ويرأسها مصطفى الترك. سَقَطَ قتلى وجرحى من الطرفيْن في المعركة، وأعلن كلٌّ من «الزعيميْن» أن «مؤامرةً» كبيرة وراء اعتداءِ الطرف الآخر عليه تَستهدفُ وحدةَ لبنان وعروبتَه والنيلَ من مقاومةِ شعبِه، وتَرَحَّمَ كلٌّ منهما على الشهداء معتبريْن أنهم افتدوا بدمائهم الوحدة والعروبة والمقاومة، وأن التاريخ سيخلدهم، وأن على أهاليهم أن يفخروا بفلذاتِ أكبادهم وقوافل العزّ التي قدّموها.
أَشْهُرٌ فقط لحقتْ تاريخ تلك المعركة «الخالدة» التي حصلتْ في منطقة البسطا الفوقا وتحديداً في طلعة النويري، ليكتشف أهالي الشهداء والجرحى أن التنظيم الثوري الناصري تبخّر وكذلك الأمر بالنسبة الى حركة أنصار الثورة. لا الناصرية احتفظتْ بتنظيمها الثوري، ولا الثورة احتفظتْ بأنصارها أو حركتها. إما أن «المؤامرة» وَظّفتْ طرفاً ضدّ آخر وإما أنها وظّفتْ الطرفيْن معاً فَأَنْهَتْهُما. إنما سؤال الأهالي ليس عن التنظيم والحركة والمؤامرة بل عن أبنائهم الشهداء. هل يقولون إنهم «استشهدوا» دفاعاً عن كيانٍ تبخّر؟ عن قضيةٍ غير موجودة؟ الشهادة في المبدأ والمنتهى هي قمة التضحية دفاعاً عن «مقدَّس» ديني أو قومي أو تَحرُّري، هي الجسر الذي يفتح أبواباً جديدة للمقاومة ويقدّم للمناضلين معْبراً جديداً الى الأمام، إنما في حالة موْقعة «طلعة النويري» هناك مَن قدّم جسده ودمه لكيانيْن سياسييْن تبخّرا... لا وجود لهما ولا بصمة تُذكر ولا حتى مجرّد ذكرى.
مع اختلافِ الحجم وهويّة الكيان السياسي والعسكري وانتفاء المقارنة تماماً مع حركةٍ قاومتْ وتُقاوِم الجيش الاسرائيلي، يبدو ما ذُكر سابقاً مَدخلاً لمقاربةٍ رمزيةٍ لوثيقةِ «حماس» الجديدة وبرنامجها السياسي المتطابق مع برنامج منظمة التحرير في ما يتعلّق بالمفاوضات والحلّ. المقاربةُ هنا ليست لموضوع المواجهات العسكرية مع إسرائيل التي خيضت من مبدأ الدفاع عن النفس، بل لموضوعيْن أساسييْن:
الحروب مع إسرائيل التي خيضت بالواسطة عن دولٍ أخرى على رأسها إيران وسورية، وهي حروبٌ لعبتْ فيها «حماس» دور الزناد فقط وكانت مثار مراجعاتٍ داخلية مستمرّة، إذ كانت الخسائر البشرية تتراكم وركام غزة يَتكاثر والعملية السياسية تُدفن وتُشيّع، وسط دعمٍ دولي، وأحياناً عربي، نتيجة إحساسِ الجميع بأن قرار الحرب والسلم في القطاع لم يعد يَخضع لا لمرجعيةٍ فلسطينية ولا لمرجعيةٍ عربية.
الموضوع الآخر، هو حجم الدم والدمار والانقسام الناتج عن الاقتتال الداخلي بين «حماس» و«فتح» و«الشعبية» و«الديموقراطية» وغيرها من فصائل منظمة التحرير تحت عنوانٍ رئيسي هو تعطيل البرنامج السياسي لهؤلاء، أي البرنامج السياسي الذي أقرّتْه «حماس» نفسها أخيراً. ولا داعي للتذكير بأن هذا الاقتتال أَوْقع من الفلسطينيين أضعاف ما أَوْقَعَتْهُ اسرائيل نسبةً إلى الفترة الزمنية القصيرة التي حصل فيها، وتَخَلّلتْه مَشاهد لن ينساها العالم مثل توقيف الأسرى عراة على حائطٍ وتصفيتهم أو دخولِ غرفِ العمليات وإلقاء الجرحى من طبقاتِ المستشفى العليا وحرْق بيوت الناشطين وبيوت أهليهم.
بعيداً من السياسة، قريباً من الإنسان. ماذا سيقول الحمساوي الذي قَتَلَ فتحاوياً أو عضواً في الجبهة الشعبية وهو يرى اليوم قادَتَهُ الذين حرّضوه على القتال يقرّون برنامجاً شبيهاً بالبرنامج الذي قاتَلَ لإحباطه؟ ماذا ستقول أمّهات «الشهداء» الذين سقطوا في «معارك الإخوة»... ابني سقط دفاعاً عن مشروعٍ سياسي هو نفسه مشروع القاتِل؟ ولماذا تَدمّرتْ غزة مراتٍ بتوقيتٍ سوري، وها هم قادة «حماس» يَخجلون من دعم رئيسِ نظامٍ يبيد شعبه بالكيماوي والبراميل؟ ماذا أفادتْ صواريخ إيران وسفن إيران طالما أن مشروع الحلّ لم يَعُدْ يختلف كثيراً عن مشروع منظمة التحرير؟
«لو كنتُ أعلم»... قالها حسن نصر الله بعد حرب 2006 معلّقاً على تَوقُّعه بردِّ فعلِ اسرائيل على خطْف جندييْن ومؤكداً أنه ما كان ليفعلها. لكنه فعل وحصل ما حصل. ولو كانت قاعدة «حماس» الشعبية، السياسية والعسكرية «تعلم» أن يوماً سيأتي تقرأ فيه في الحلّ السياسي من كتابِ منظّمة التحرير نفسه، لربما تجنّبتْ بعض الدماء وبعض الدمار، لكنه زمنُ الموتِ المجاني العربي في لبنان الحرب الأهلية، ولبنان ما بعد التحرير وترسيم الحدود الدولية، وعراق الإرهاب والطائفية، وسورية التي أَضْحَتْ صندوق بريد إقليمياً ودولياً للرسائل المتفجّرة ومُصَدِّراً للنعوش المُهاجِرة، ويمن التوقيت على ساعة الضبط الإيرانية، وفلسطين التي بات أفرقاؤها «يعلمون» متأخّرين أن مجانية الموت وسّعت المقابر لقضيّتهم أيضاً.