صليب مصر

تصغير
تكبير
رغم كل الحزن والأسى والألم الذي انتاب الجميع عندما سالت دماء الأبرياء على صليب المحبّة في مصر، ورغم كل الأيادي التي وُضعت على القلوب خوفاً من أن يحقّق المجرمون ما هو أكثر من القتْل، ورغم كل القلق على مصر الأمن والأمان والاستقرار... إلا أن المصريين يوجّهون في الملمات دائماً أجمل الرسائل الى العالم.

مصر بقيتْ نقيض العالم العربي في أمراضِ الطائفية والانقسام المجتمعي الأفقي. تعاني من أزماتٍ لا حصْر لها وتعيش مشاكل تتوالد يومياً، لكنها لم تشهد ولن تشهد ذاك السلوك الذي دمّر دولاً مشرقية ومغربية بالسلاح الطائفي والقبَلي والعشائري والمناطقي. الدولةُ في مصر، ككيانٍ تنظيمي إداري، سابقة على التجمعات البشرية وتنويعاتها العرقية والعقائدية المختلفة، بينما الدولة في أماكن أخرى كانت لاحِقة لهذه التجمعات ثم منزوية بخجلٍ تحتها أو في أفضل الأحيان متعايشة مع انقساماتٍ تعبّر عن تَصاعُدها بحروبٍ أهلية، وتعبّر عن هدوئها طوراً بتسوياتٍ تجعل السلطة خادمةً للطوائف أو القبائل أو العشائر.


لا يحاولنّ أحدٌ ليّ ذراع الحقائق أو تلطيف الأمور. من الجزائر وليبيا الى اليمن، مروراً بالعراق وسورية وفلسطين وغيرها. فعدا عن كوْن التوتّرات فيها مرتعاً خصباً للإرهاب والعنف من كل الطوائف والتيارات، إلا أنّ المرض الانقسامي انتشر سرطانياً في العقول والنفوس أيضاً. فهناك مَن يوزّع الحلوى إن تدمّرتْ قريةٌ غالبيتها من طائفة معينة، وهناك مَن يقيم الموالد احتفالاً بتفجيرِ إرهابيّ نفسه في تَجمُّعٍ من طائفة معيّنة، وهناك مَن صار يرى المجازر في حقّ الأطفال «بطولة» لأن المنطقة التي سقطوا فيها لا تخضع لسلطتهم. هناك ذابِح يسمى مجاهداً وبطلاً وضحيّته كافراً، وهناك ذابِح يسمى إرهابياً مجرماً وضحيته شهيداً.

المشهد في مصر مغاير تماماً. نعم هناك مَشاعر لدى هذه الفئة أو تلك بالغبن، أو لِنَقُل بالرغبة في تحسين الأوضاع والمشاركة بشكل أكبر في إدارة السلطة وحصص التنمية، وهناك متطرّفون في الجانبيْن يسعون إلى تسعير الخطاب الطائفي وغسْل العقول واستدراج تدخُّلاتٍ دولية بحجّة «نصْرة الأقليات ورفْع المظالم»، لكن كل شيء يتوارى في امتحانِ الدم أو في المفترقات المصيرية.

حماة الصليب الذين استشهدوا كانوا مسلمين، وحماة الدولة الذين استشهدوا ويستشهدون في سيناء وغيرها هم مسيحيّون ومسلمون، والأهمّ من ذلك كله أن المشترَكات واحدة في المَشاعر والحزن والخوف والسخط والتنديد، وأن الأصوات العاقِلة الحكيمة من النخبِ الدينية والفكرية تَتَصدّر المواجهة حارِمةً المجرمين من تحقيق الهدف الحقيقي لإجرامهم. فمَن أرسل «الداعشي» و«القاعدي» لم يُرِدْ قتل الناس فحسب، بل إن وظيفة حزامه الناسف نسْف الوحدة المجتمعية والأمن والاستقرار وهزّ أُسسِ الدولةِ لاحقاً.

يستيقظ المصري على تحدّياتِ ارتفاع الأسعار وهبوط العملة وتَراجُع الاحتياطي المالي. يعترض أو يوافق على سلوكياتِ الطبقة السياسية الجديدة وقرارات الحكومة. يتابع أخبار الفساد بأملٍ أو بيأس، يصدّق ولا يصدّق، تَخْنُقُه زحمة الشوارع، تُقْلِقُه العلاقاتُ المتوتّرة بين بلاده ودول أخرى. يفكّر في الحصول على تأشيرةٍ للسفر والعمل في الخارج. يَنتقد، يُهاجِم، يَكتب، يَدْخُل عالم التغريد و«السوشيل ميديا» معبّراً... لكنه في امتحانِ الدمِ يفاجئ العالم، فيَتْرُك ذلك كلّه في قناعاته، ويُصْبِح مُقاتِلاً في جيشِ الدفاع عن الدولة والاستقرار، بالسلاح وبالشعور والكلمة والشراكة والمسؤولية والدمع والحزن واليقظة والتضامُن.

ويا مَن أَمَرَ الإرهابي بتفجيرِ نفسه في مصر، مكشوفٌ أنتَ في التوقيتِ والأهداف، وملعونٌ أنتَ في الدنيا والآخرة. مصر عصيّة على مشاريعِ تحويلها ورقةً في يدِ لاعبين إقليميين وعالميين، وعصيّة على التحوّل إلى دولةٍ فاشلةٍ مُنْقَسِمَة بين ميليشياتٍ طائفية و«حَرَسٍ» و«حَشْدٍ» وأحزاب مسلّحة و«أمراء» مناطق. وعصيّة على إشغالها داخلياً ودفْعها إلى الانكفاء دوراً وحضوراً.

صليب الآلام تَحْمِلُه مصر في الدنيا بِحُكْمِ موقعها وتاريخها ودورها، ودم المصريين الأبرياء سينتصر على سيوف الإرهاب ويقطع أيادي حامِليها ومَن يحرّكهم عن بُعد... بلسانٍ عربي أو أعْجَمي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي