زراعة القلب جراحياً... رحلة انتقال «النابض» من صدرٍ إلى آخر!

تصغير
تكبير
تحيط بعمليات نقل وزراعة القلب تعقيدات كثيرة مثل صعوبة الحصول على قلب مناسب من متبرع واحتمال رفض الجسم للقلب المزروع
من بين جميع عمليات نقل الأعضاء البشرية من أجسام متبرعين وزرعها في صدور مرضى «متلقّين» في احتياج إليها، تنطوي عملية نقل وزرع القلب على أبعاد شديدة الخصوصية، إذ إنها تثير في العقل خواطر وفي النفس مخاوف كثيرة متداخلة إزاء احتمالات وعواقب الفشل. كما يعقب العملية خليط من الآلام والآمال... آلام ما بعد الجراحة، وآمال التعافي والشفاء واستعادة الصحة.

وإلى جانب كل هذا، تثير مثل تلك العملية الحساسة قدرا لا يستهان به من الرهبة في قلب أي مريض يخضع لها... وهي الرهبة التي تنتقل تلقائياً من قلبه الذي كان في صدره قبل العملية إلى قلبه «المزروع» الجديد الذي يسكن بين أضلاعه ليواصل مسيرة النبض.


في التقرير التالي نُبحر معكم في رحلة ترصد المسار الجراحي لانتقال قلب من صدرٍ إلى آخر...

التعريف المُبسّط جدا لزراعة القلب هو أنه عملية نقل جراحي لقلب سليم نسبيا من متبرع وزرعه جراحيا ليعاون أو يستقر في مكان قلب مريض يُعاني من فشل، أو من أحد أمراض الشريان التاجي الحاد، أو أي اعتلال آخر يهدد الحياة وغير قابل للعلاج.

معنى هذا هو أن المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات زراعة قلب هم أولئك المصابون بفشل حاد في القلب غير قابل للعلاج سواء بالعقاقير أو بالتدخل الجراحي. وغالبا ما يكون فشل القلب ناجما عن أمراض الشريان التاجي، وقد يكون أيضا بسبب فشل عضلات القلب ذاته، وهو ما يسمى اعتلال عضلة القلب. وبين الأطفال، يكون نصف الحالات التي تحتاج إلى زراعة قلب إما بسبب اعتلال في عضلة القلب، بينما يكون النصف الآخر بسبب تشوّه تشريحي خلقي في القلب.

وتحيط بعمليات نقل وزراعة القلب صعوبات وتعقيدات كثيرة، من بينها أنه لا يتسنى الحصول على قلب بسهولة، إذ لا بد من انتظار «متبرع مناسب» فارق الحياة حديثا، كما ينبغي أن يكون قلب المتبرع ملائما للمريض المنقول اليه حتى لا يلفظه جسمه لاحقا.

ولهذه الأسباب وغيرها، فإنه لا يتم قبول أي مريض للخضوع لعملية زراعة القلب إلا إذا كان لا يمكن معالجته بأي طرق أخرى وأصبح معرضا للموت إذا لم ينقل اليه قلب بديل، كما ينبغي أن يكون لائقا صحيا بدرجة كافية كي يصمد وينجو من قسوة تلك العملية الجراحية البالغة الدقة والحساسية، والتي تحتاج إلى تجهيز المريض قبلها بطريقة خاصة وإعطائه جرعات من العقاقير الخاصة لتدعيم القلب، ثم ابقائه متصلا بمضخة ميكانيكية موقتة بعد إجراء العملية لتدعيم قلبه الجديد وإبقائه نابضا حتى ينسجم ويصبح قادرا على العمل من دون مساعدة.

رحلة الانتقال

يدير معظم الدول المتقدمة طبيا برامج طبية وطنية معنية بتنظيم عمليات نقل وزراعة القلب، وذلك بما يضمن السرعة والسلاسة ومراعاة الاعتبارات الأخلاقية والقانونية.

فعند توافر قلب مناسب من أي متبرع، يبدأ البحث فورا من خلال قاعدة بيانات قومية عن أنسب متلق من بين المرضى المسجلين ضمن قوائم الانتظار، وذلك في ضوء اعتبارات عدة من بينها حجم القلب، وفصيلة الدم، ودرجة احتياج المتلقي.

تبدأ الرحلة بأن يتم عمل مجموعة واسعة من الفحوصات الدقيقة على قلب المتبرع. فإذا أثبتت الفحوصات أنه سليم عضويا وخال من أي مخاطر مرضية، فإنه يتم استخلاصه جراحيا بعناية وتخزينه بطريقة خاصة أو حفظه في حاوية طبية مثلجة، ثم ينقل سريعا إلى مركز زراعة القلب الذي يرقد فيه المريض المناسب.

وبينما يكون القلب في طريقه إلى المركز، تبدأ إجراءات تحضير المتلقي المحتمل للعملية، حيث تم تخديره. وبمجرد أن يصل القلب البديل، يشق الجراحون صدر المريض المتلقي ويستخرجون قلبه المعتل.

في تلك الأثناء يتم إبقاء المريض على قيد الحياة بوضعه على جهاز اصطناعي يقوم بدور القلب والرئة. وعلى الفور تبدأ إجراءات عملية تثبيت وتخييط القلب البديل جراحيا، وذلك في غضون مدة زمنية ينبغي ألا تتجاوز 8 ساعات بين انتزاع القلب من المتبرع وتثبيته تماما في صدر المتلقي.

وفور الانتهاء من زراعة القلب، يبدأ الأطباء في ضخ دم من خلاله ليبدأ النبض في «بيته» الجديد. وبعد التأكد من نجاح العملية، يُنقل المريض إلى وحدة العناية المكثفة، ويبقى تحت الملاحظة المستمرة هناك لبضعة أيام إلى أن يستقر أداء قلبه نسبيا ثم ينقل إلى جناح الرعاية الجراحية.

ما بعد الجراحة

معظم مرضى جراحات زراعة القلب يقضون ما بين أسبوعين و 3 أسابيع في المستشفى بعد خضوعهم إلى العملية، ثم يسمح لهم بالخروج مع مراعاة المراجعة بشكل دوري منتظم لمتابعة تطور الحالة.

خلال فترة النقاهة التي قد تمتد لأشهر، يعتمد الأطباء المعالجون عادة على إعطاء المريض عقاقير خاصة تكبح نشاط جهازه المناعي، ويتزامن ذلك مع مراقبة منتظمة للقلب تحسبا لاحتمال ظهور علامات رفض الجسم له. وفي حال ظهور بوادر الرفض، يشرع الأطباء في إجراءات معينة لإعادة تأهيل المريض سريعا حتى يستعيد انسجام جسمه مع القلب الجديد.

نفسيا، يتعرض كثير من المرضى بعد خضوعهم إلى عملية زراعة قلب إلى «أزمة» تتمثل في مشاعر سلبية، بما في ذلك الاكتئاب أو اليأس أو هواجس الموت، لكن معظمهم يتخطون مرحلة «أزمة ما بعد العملية» في غضون فترة تصل إلى عام تقريبا.

وبفضل تطور التقنيات الجراحية والعقاقير العلاجية الحديثة، فإن القلب المزروع لا يفشل ويؤدي إلى الوفاة إلا في ما يتراوح بين 5 و 10 في المئة من الحالات على مستوى العالم.

والمشكلة الأكبر التي من المحتمل أن يواجهها المريض مع مرور السنوات بعد العملية فهي تضيُّق شرايين القلب المزروع. ويحدث هذا التضيُّق عادة بسبب أن بطانة تلك الشرايين تكون بمثابة الحدود بين أنسجة المتبرع ودم المتلقي. ومع ذلك فإن 3 من بين كل 4 مرضى ينجون من ذلك الاحتمال خلال السنوات الخمسة الأولى في أعقاب العملية، وواحد من بين كل اثنين يبقى على قيد الحياة لمدة أكثر من 15 عاما بعد العملية، بل إن هناك بعض المرضى يعيشون 20 أو 25 عاما بعدها، وبالأخص المرضى الأصغر سناً.

وفي حال فشل القلب المزروع هناك احتمال لإعادة عملية الزراعة مرة أخرى.

الموانع

هناك بعض المرضى يكونون غير ملائمين لإخضاعهم إلى عملية زرع قلب، وذلك بسبب موانع معينة من أهمها إذا كانوا يعانون من مشاكل أخرى في الدورة الدموية المرتبطة بالقلب. لذا فإن الأطباء لا يشرعون في إخضاع أي مريض إلى عملية نقل قلب إلا بعد أن يتأكدوا من إزالة تلك الموانع إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وفي التالي أبرز الموانع التي يرى جراحو القلب أنها ترجح زيادة فرص فشل العملية وحدوث مضاعفات لاحقا:

? ارتفاع مستوى المقاومة الوعائية الرئوية.

? الجلطات الحديثة.

? مرض السكري المعتمد على الأنسولين، ولا سيما عندما يكون متزامنا مع قصور في اي عضو آخر في الجسم.

? أمراض الكليتين والرئة والكبد.

? أمراض الأوعية الدموية في شرايين الرقبة والساق.

? جميع الأمراض المهدد للحياة، حتى تلك التي لا علاقة لها بفشل القلب.

? الإدمان على المخدرات والتبغ (في مثل تلك الحالات ينبغي أولا الإقلاع ومعالجة آثار الإدمان).

? إذا كان عمر المريض أكثر من 65 عاما (إلا إذا كان متمتعا بصحة عامة جيدة وخاليا من اي أمراض مزمنة).

كيف تتم الجراحة؟

هناك أساليب وإجراءات جراحية عدة لإتمام عمليات زرع القلب، ونسلط الضوء في التالي على أبرزها:

• الإجراء نفس المكاني (المثلي)

- هذا الإجراء كلاسيكي، ويبدأ بشق الصدر جراحيا من مكان معين إلى أن يصبح الشق كافيا ويظهر «التامور» الذي هو ذلك الغشاء أو الكيس المرن الرقيق الذي يكسو القلب.

- ثم يتم قطع الأوعية الدموية الكبرى المتصلة بالقلب المصاب مع جزء من الأذين الأيسر، وعلى الفور يتم توصيل المريض على جهاز قلبي رئوي اصطناعي ليتولى تشغيل الرئتين والدورة الدموية أثناء العملية.

- يستخرج الجراحون القلب المريض.

- لا تُقطع أوردة المريض الرئوية، لذلك يُترك جزء دائري من الأذين الأيسر الذي يحوي تلك الأوردة الرئوية في مكانه.

- يقوم الجراح بتشذيب الأذين الأيسر للقلب الممنوح ليتناسب مع شكل الجزء المتبقي من الأذين الأيسر لقلب المريض الأصلي، ثم يتم تثبيت القلب البديل بعناية، والبدء في إعادة خياطة الأوعية الدموية الكبرى في أماكنها.

- فور الانتهاء من عملية الزراعة، يُعاد تشغيل القلب البديل ضمن الدورة الدموية.

- بالتزامن مع ذلك يتم فصل المريض عن الجهاز القلبي الرئوي الاصطناعي.

- يقوم الأطباء بخياطة الشق الجراحي.

• الإجراء غير المكاني (المشترك)

يعرف هذا الإجراء أيضا باسم «الإجراء المشترك»، إذ لا يتم استئصال قلب المريض الأصلي، بل يتم الابقاء عليه في مكانه ثم يتم توصيل القلب البديل جنبا إلى جنب معه بحيث يصبحان متصلين معا بالأوعية الدموية ليشكلا معا «قلبا مزدوجا».

وهذا الإجراء يُعطي فرصة لاسترداد قلب المريض الأصلي في حال فشل القلب البديل لأي سبب، بما في ذلك رفض الجسم له. وفي هكذا حالة، يلجأ الأكباء إلى استئصال القلب الإضافي المزروع، وترك القلب الأصلي للمريض مكانه.

ولا يُستخدم الإجراء المشترك إلا في الحالات التي يكون فيها القلب الممنوح ليس قوياً بما فيه الكفاية للعمل بمفردة، سواء لأن جسم المريض أكبر بكثير من جسم المتبرع، أو لأن القلب الممنوح ضعيف في حد ذاته، أو أن المريض مصاب بارتفاع ضغط الدم الرئوي.

نظرة تاريخية

الطبيب الأميركي سايمون فليكسنر يعتبر أول من فتح باب الحديث عن إمكانية نقل وزراعة القلب البشري، وكان ذلك في العام 1907 عندما نشر بحثا له تنبأ فيه بأنه سيكون من الممكن مستقبلاً استبدال الأعضاء البشرية المريضة جراحيا، بما في ذلك الشرايين والمعدة والكلى والقلب.

وفي العام 1945 حقق عالم الباثولوجيا السوفياتي نيكولاي سينيتسين إنجازا غير مسبوق في ذلك الاتجاه، وذلك عندما نجح في نقل قلب من ضفدع وزرعه جراحيا في ضفدع آخر، ثم قلب من كلب إلى كلب آخر، وعاش الضفدع والكلب المتلقيان بالقلب المزروع لفترة من الزمن.

وفي يناير من العام 1964، أجرى جراح أميركي يدعى جيمس هاردي أول عملية نقل قلب إلى إنسان، حيث زرع قلب شمبانزي في صدر مريض ستيني كان يحتضر وكانت تلك محاولة أخيرة من جانب الجراح لإنقاذ حياته، إذ انه لم يكن هناك قلبٌ بشري مُتاح. لكن المريض توفي بعد 90 دقيقة من إجار العملية. وواجهت عملية هاردي لانتقادات حادة باعتبارها خطوة لا أخلاقية طبيا، لكنها أظهرت أنه من الممكن عمليا نقل وزراعة قلب في إنسان.

ويعود الفضل إلى عملية هاردي في أنها هي التي فتحت الباب لاحقا – وتحديدا بعد مرور 3 سنوات - أمام إجراء أول عملية ناجحة لزرع قلب من إنسان إلى إنسان، وكان ذلك في العام 1967 على يد جراح قلب جنوب أفريقي يدعى كريستيان بارنارد.

ورغم ذلك، فإن الأب الروحي لزراعة القلب يُعتبر الجراح الجنوب أفريقي نورمان شومواي، وذلك لأنه كان أول من ابتكر تقنيات جراحية متطورة وغير مسبوقة لزراعة القلب البشري. وبفضل هذه التقنيات، أجرى بارنارد أول عملية زراعة قلب لمريض بشري في أواخر العام 1967 في أحد مستشفيات مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا. ثم سرعان ما أجرى أول عملية زرع قلب في الولايات المتحدة بتاريخ 6 يناير 1968، في مستشفى جامعة ستانفورد.

ومنذ ذلك الحين، واصلت تقنيات جراحات زراعة القلب تطورها إلى أن أصبحت الآن تُجرى يوميا تقريبا في أماكن متفرقة من العالم، إذ تشير إحصائيات إلى أنه يتم إجراء نحو 3700 جراحة سنويا، أي بمعدل يبلغ 10 عمليات في المتوسط العام يوميا.

ويتم إجراء الغالبية العظمى من تلك الجراحات الحساسة في الولايات المتحدة (ما بين 2000 و 2300 سنوياً). مركز «سيدار-سايناي» الطبي في لوس انجليس هو حالياً أكبر مركز متخصص في جراحات زراعة القلب على مستوى العالم.

مشاهير... في تاريخ زراعة القلب

• نائب رئيس الولايات المتحدة الأسبق ديك تشيني كان واحدا من أشهر الذين خضعوا لعملية زرع قلب على مر التاريخ، وأجريت له العملية بتاريخ 24 مارس 2012. ولأنه كان يبلغ 71 عاما آنذاك، فإن عمره أثار كثيرا من المناقشات في الأوساط الطبية العالمية حول أعلى سن يمكن عندها إجراء عمليات زرع أعضاء عموما، وزرع قلب خصوصا.

• بتاريخ 20 أكتوبر 1982 أجرى السير البريطاني (المصري الأصل) مجدي يعقوب عملية زرع قلب ناجحة لمريض بريطاني يدعى جون ماكفرتي في مستشفى هيرفيلد في انكلترا. وعاش ماكفرتي حياة شبه طبيعية لسنوات طويلة بعد العملية، إلى أن أصبح اعتبارا من فبراير 2016 صاحب الرقم القياسي العالمي لأطول مدة بقاء على قيد الحياة بعد الخضوع إلى عملية زرع قلب. وتوفي ماكفرتي عن عمر ناهز 73 سنة في 9 فبراير عام 2016، أي بعد 33 عاما على زرع قلب بديل في صدره.

• لدى وفاته بتاريخ 10 أغسطس 2009، كان الأميركي توني هيوزمان هو حامل الرقم القياسي العالمي لأطول مدة استمرار على قيد الحياة بقلب مزروع. فلقد عاش بعد العملية لمدة 30 سنة و11 شهرا و10 أيام، ثم مات متأثرا بمضاعفات السرطان. وكان هيوزمان في العشرين من عمره عندما تلقّى قلبه البديل في العام 1978 وأجريت عليه العملية في مستشفى جامعة ستانفورد تحت إشراف الدكتور نورمان شوموي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي