تقرير / يتكاتف على تكريمه اليوم هاني فحص... القديس يوسف...الإمام الخوئي و... الكوفة
سمير فرنجية... ويكفي
سمير فرنجية
رجل حالم يجتهد في صوغ تسويات نبيلة لا مساومات أو صفقات
صدامي لا يهادن معسكر الانتهازيين والأغبياء والطائفيين والطغاة
صدامي لا يهادن معسكر الانتهازيين والأغبياء والطائفيين والطغاة
بالأمس القريب فتح الزمن البائس مزدوجيْن حين أطلّت الأنوار من قصر الصنوبر في أمسيةٍ عاكستْ ليالي بيروت الداكنة... الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قلّد عبر سفيره في لبنان «المفكّر والمناضل الوطني» سمير فرنجية وسام الشرف من رتبة كومندور في حدَثٍ تَجاوز في رمزيّته فرنجية - الشخص، وكان احتفاءً بتجربته المديدة وما اختزنتْه من قيمٍ وطنية وإنسانية وأخلاقية.
اليوم «تتكاتف» أكاديمية هاني فحص وجامعة القديس يوسف ودار العلم للإمام الخوئي وجامعة الكوفة وكرسي اليونسكو فيها على تكريم سمير فرنجية بمنْحه «جائزة هاني فحص لصنع السلام» تقديراً لـ «عطائه ومبادراته الخلّاقة»، وهو حدَث يتعدى أيضاً فرنجية - الشخص الى ما تشكّله تجربة هذا الرجل، الأشبه بشجرة متعدّدة الجذور ويتّسع فيؤها للجميع.
في سبتمبر الماضي كان الموعد في القصر الجميل، الذي جعله التاريخ وكذلك الجغرافيا رمزاً لمحطات بارزة في الذاكرة اللبنانية، كالاستقلال والحرب. يومها بدت فرنسا وكأنها أودعتْ قيمها في الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان في وسامٍ منحتْه لسمير فرنجية، قبل ان تهمّ مع يمينها الصاعد لملاقاة فلاديمير بوتين وبشار الأسد حول وليمة الدم المسفوك في سورية.
حتى فرنسا التي قالت لفرنجية يوم تكريمه انها تحيّي فيه «تَحرُّره من التخنْدق السياسي ودفاعه عن لبنان الموحّد في تَنوعُّه وسعيه الى الحوار والمصالحة خدمةً للبنان»، تكاد ألا تشبهه على وقع «الاسلاموفوبيا» التي تتلاعب بأعصابها وخياراتها في زمنِ «فرقةٍ سبّاقة» في مشروعٍ ما لتدمير بلاد العرب ونحْر شعوبها، اسمها الحرَكي «داعش» ومجهولة باقي الهوية.
ومع إطلالة ديسمبر اليوم، سيكون الاحتفال بمنْح فرنجية «جائزة هاني فحص لصنع السلام» أشدّ تعبيراً واختزالاً لما هو عليه سمير بك، المارونيّ الذي يَتشارك الإمام الخوئي والقديس يوسف على تكريمه تحت راية رجلٍ، تَشارك معه همَّ الحوار ومنتدياته وقيم الانفتاح، صديقُ الجميع العلّامة الراحل، عَلَامة الانتفاح والتسامح، هاني فحص.
ففي لحظةِ تشريع الميليشيات المذهبية في العراق والإمعان في تقويض دعائم العيش المشترك ونحْر المُواطنية وتهشيم الطابع المدني للدول الوطنية، يحمل دار العلم للإمام الخوئي كرسيّ اليونسكو في جامعة الكوفة المخصص لحوار الأديان الى معهد الدراسات الاسلامية - المسيحية في الجامعة اليسوعية لتكريم «الكومندور» سمير فرنجية الذي قيل عنه إنه قائدٌ لجيوش السلام.
لماذا كل هذا التكريم لرجلٍ لا يحمل من الألقاب الرسمية و«عرَضاً» إلا «النائب السابق» في بلادٍ يَتدافع سياسيوها، أقوياء وضعفاء، على الكراسي؟ وما سرّ حفاوة الغرب والشرق بشخصيةٍ رأسمالها العقل لا رأس المال؟ وأيّ خاصّياتٍ تجعل للمحتفى به رمزيةً عامة لا خاصة؟
لأن أجمل ما في الكلام عن سمير فرنجية - الشخص، أنه مهما قال المرء عن ريادته وثقافته ورِفعة أخلاقه ونُبله وطغيان الإنسان فيه، فلن يُتّهَم بـ «المديح» الذي لا يليق بالبك المتربع على طيبةٍ نادرة تحرسها صلابةُ العارف.
وأجمل ما في الكلام عن فرنجية - المثقّف، أنه مهما قال المرء عن لبنانيّته وعروبته، عن مسيحيته وإسلامه، عن أصالته وحداثته، فلن يصاب بشُبهة المغالاة التي لا تستوي مع تجربةِ رجلٍ لا مكان لـ «الأنا» في حياته المسكونةِ بـ «الآخر».
وأجمل ما في الكلام عن فرنجية - السياسي، أنه مهما قال المرء عن الوصْل الذي لا يتهيّبه، وعن القطْع الدائمِ القطيعة معه، وقيمه الراسخة في الحوار، فلن يؤخذ عليه التملّق لهذا الذي لا يبحث عن مريدين ولا يشبه الزعماء ولا القادة الأقوياء، هو الذي لا يشبهه إلا الناس.
نعم، أجمل ما في الكلام عن فرنجية - المشروع، أنه مهما قال المرء عن هويّاته المتصالحة وجنوحه الدائم نحو التسويات النبيلة، سيصيب بالتأكيد الخاصية الأهم في تجربة هذا العقل الشغوف بالفكرة اللبنانية كرسالةٍ إنسانيةٍ صارتْ حاجةً مع طغيانِ الاستبداد والشعبوية.
كلُّ هذا وذاك هو سمير فرنجية، الزغرتاوي ابن «عموم» لبنان وفضاءاته الرحبة. الرؤيوي الذي لم يغادره نبضُ الناس، السياسي الذي لم تشوّهه السياسة، العابرُ للمناطق والطوائف في زمنِ الحرب والسلم، داعيةُ الحوارِ والسلام.
لم يكن سمير فرنجية يحتاج في كفاحه اليومي الى مقويّات من خارج اقتناعاته وثقافته وتَراكُم تجربته للقيام بالأدوار التي لعبها... وَضعَ جانباً، وفي سنّ مبكرة، «البكواتية» في مفهومها الإقطاعي، ولم تأخذه الارستقراطية إلا في نُبْلها الثقافي، ولم يستثمر العشائرية لحجز مكانةٍ ما على المسرح.
يساريّته في زمنٍ ما، لم تَحُلْ دون كسْره الصمت مع اليمين وعبور الحواجز لنزْع فتيل العنف. ومسيحيّته كانت وطنيةً على الدوام ولا تكتمل، بالمعنى السياسي، إلا بالشراكة مع المسلمين في مختبرِ حوارٍ دائم اسمه العيش الواحد، وهو الشرط البديهي لرؤيته للدولة العميقة وللحكم والمواطنية والسيادة.
ورغم ان النزعة التصالحية هي أكثر ما يميّز سمير فرنجية، إلا ان الرجل الحالم والمجتهد دائماً لصوغ تسوياتٍ لا مساومات، لم يكن يوماً طوباوياً او من النوع الذي يهوى الصفقات. ومَن يعرفه يدرك حجم عناده في المسائل التي لا تحتمل التفريط، وصِداميته مع معسكرِ الانتهازيين والأغبياء والطائفيين والطغاة.
وتَجنُّباً للتكرار الذي ربما لن يضيف الكثير في محاولةِ وصْفٍ لن تنصف بالضرورة السبعينيّ (71 عاماً)، الذي أمضى نحو نصف قرنٍ يصارع من أجل التجديد والمصالحة، يمكن استعارة مضمون بعض ما كُتب عن سمير فرنجية وما كتبه عن تجربته التي لم تعرف السكون، وهو الذي لم يصبه الملل او الكلل.
الرئيس سعد الحريري، كتب عن صديقه سمير فرنجية انه «مرادفٌ للصمود، صمود إرادتنا في العيش معاً في بناء السلام، وفي إنجاز المصالحة رغم جميع أسباب المكوث في القطيعة الثأرية (...) والبك الإقطاعي، المسيحي، الماروني، اللبناني هو دائماً حيث لا يَتوقّع له حمضُه النووي ان يكون، فهو جعل من تَقمُّص الآخر قضيةً شخصيةً شبه جسدية».
الكاتب أحمد الغز لاحظ انه «اذا أنشأنا حزباً لأصدقاء سمير فرنجية، قد يكون من أكبر أحزاب لبنان (...) انه رجل حوارٍ وتَواضُعٍ وإصغاء، محبٌّ للحياة، متشعّبُ الوصال مع الأديان والطوائف والأحزاب، ومتعدد المجتمعات والطبقات والحقبات، لبناني، عربي الهوية (...)».
وشبّه الدكتور انطوان قربان، سمير فرنجية، بـ «لبنان الأزلي»، وكتب: «(...) انه شخصية آسرة. لا شك في انه زعيم اقطاعي بحكم نسَبه، لكنه يعيش الحياة البسيطة للأُسَر البرجوازية بعيداً عن المظاهر والادعاءات (...) هو صديقٌ وفيّ وخصمٌ يهابه أعداؤه، وصارمٌ في موقفه من حقوق الإنسان، يجسد في شخصه رمز الشجاعة والاعتدال (...)».
أما سمير فرنجية، الذي قال عن سمير فرنجية يوم مُنح وسام الشرف الفرنسي من رتبة «كومندور» ان هذا التمييز العالي المستوى يقويّ تصميمه على إكمال المعركة التي يخوضها من اجل السلام، فبدا على التصميم عيْنه في المعركة ضد عنفٍ أكثر غدراً يتربّص به، اي المرض، الذي لم يستسلم لخبثه.
أجمل الجلسات مع الـ «بك الأحمر» أو الـ «بك الأبيض» هي «الصبحية» في منزله. يجلس على الكنبة عيْنها... عيْنه على علبة السجائر التي خاصمها وربما يحنّ إليها، وغالباً ما يبدأ حديثه بـ «دعابةٍ شخصية» فيها الكثير من الودّ الذي لا يشبه المجاملات.
في «جولة الأفق»، نادراً ما يأتي سمير فرنجية على ذكر هذا السياسي او ذاك. يناقش فكره أكثر مما تأخذه المواقف «المسطّحة» بحد ذاتها، وهو المتَهَم بأنه مَصْنع مبادراتٍ وأفكار، ربما لانه لا يستسيغ دور «معقّب المعاملات» في السياسة و«مقاولاتها».
قد يجادل أحياناً ابنه او سواه بنظريةٍ لـ نيتشه او هيغل او جان بول سارتر، لكن الثابت الذي لا يبارحه على الإطلاق هم الناس العاديون، الذين يشكلون لسان حاله... فبكثيرٍ من الحبور، يتحوّل كلامه الى حكاياهم وكأنه يستدلّ منها الصواب، ليس لأنه لا يقيم وزناً للطبقة السياسية، بل لأنه يجد في نبضِ الشارع وعفويته خميرةً صادقةً لا تُفْسِدها الحسابات الخاصة.
سائق «سرفيس» استقلّه في بيروت، سيدةٌ متقدمة في العمر تملك فرن مناقيش على طريق البترون، ممرّضٌ يقود كرسيه لإجراء فحوص، عاملٌ زراعي في زغرتا، سيداتٌ يُدِرْن الكافتيريا في المستشفى، وسواهم من «الكائنات السياسية» التي غالباً ما تحضر في حوارات فرنجية الذي لا يتعب من الحوار.
هذا «الضمير الشعبي» للرجل الذي لعب أدواراً محورية وساهم في صناعة أحداثٍ كبيرة، يوازي ما يملكه من علاقاتٍ قلّما يتمتّع بها سياسيو لبنان، مع مفكّرين ومثقّفين وساسة في العالم العربي وبعض العالم الأوسع، ولا سيما فلسطين وسورية ومصر والاردن والعراق وتونس وفرنسا وسواها.
سيكون من الصعب الإطلالة على تلك الأدوار إلا لماماً... من سيارته «الفولفو» ومناشيرها الثورية أيام اليسار، الى إنقاذه أرواحاً بريئة برعايته وقفاً لحرب السيارات المفخّخة بين المتقاتلين إبان الحرب في لبنان، والتقاطه سريعاً فرصة اتفاق الطائف ومن ثم تأسيسه المؤتمر الدائم للحوار كأحد أبرز تجارب المصالحة بعد الحرب.
ولن يكون مبالغةً او انتقاصاً من أدوار رفاقه، القول إن سمير فرنجية بعلاقة «الثقة المتبادلة» التي ربطتْه بالبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير والرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط، نجح في تحويل مناهضةِ الوصاية السورية على لبنان الى معارضةٍ وطنيةٍ إسلامية - مسيحية مهّدت للاستقلال الثاني.
أذاع بيان «انتفاضة الاستقلال» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان عقلها وضميرها، وتولى إدارة الحوار مع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله لضمانِ «خروجٍ سلْمي» للجيش السوري من لبنان، وكان أوّل مَن أقرّ بأن قوى «14 آذار» خسرتْ، لكن «8 آذار» لن تربح.
كيف يمكن لمرءٍ ان يعنْون هذه المقاربة السريعة لتجربة سمير فرنجية، الذي يُكرَّم اليوم بمنحه «جائزة هاني فحص للسلام»؟... لم أجد أفضل من عنوانٍ واحدٍ: سمير فرنجية... ويكفي.
اليوم «تتكاتف» أكاديمية هاني فحص وجامعة القديس يوسف ودار العلم للإمام الخوئي وجامعة الكوفة وكرسي اليونسكو فيها على تكريم سمير فرنجية بمنْحه «جائزة هاني فحص لصنع السلام» تقديراً لـ «عطائه ومبادراته الخلّاقة»، وهو حدَث يتعدى أيضاً فرنجية - الشخص الى ما تشكّله تجربة هذا الرجل، الأشبه بشجرة متعدّدة الجذور ويتّسع فيؤها للجميع.
في سبتمبر الماضي كان الموعد في القصر الجميل، الذي جعله التاريخ وكذلك الجغرافيا رمزاً لمحطات بارزة في الذاكرة اللبنانية، كالاستقلال والحرب. يومها بدت فرنسا وكأنها أودعتْ قيمها في الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان في وسامٍ منحتْه لسمير فرنجية، قبل ان تهمّ مع يمينها الصاعد لملاقاة فلاديمير بوتين وبشار الأسد حول وليمة الدم المسفوك في سورية.
حتى فرنسا التي قالت لفرنجية يوم تكريمه انها تحيّي فيه «تَحرُّره من التخنْدق السياسي ودفاعه عن لبنان الموحّد في تَنوعُّه وسعيه الى الحوار والمصالحة خدمةً للبنان»، تكاد ألا تشبهه على وقع «الاسلاموفوبيا» التي تتلاعب بأعصابها وخياراتها في زمنِ «فرقةٍ سبّاقة» في مشروعٍ ما لتدمير بلاد العرب ونحْر شعوبها، اسمها الحرَكي «داعش» ومجهولة باقي الهوية.
ومع إطلالة ديسمبر اليوم، سيكون الاحتفال بمنْح فرنجية «جائزة هاني فحص لصنع السلام» أشدّ تعبيراً واختزالاً لما هو عليه سمير بك، المارونيّ الذي يَتشارك الإمام الخوئي والقديس يوسف على تكريمه تحت راية رجلٍ، تَشارك معه همَّ الحوار ومنتدياته وقيم الانفتاح، صديقُ الجميع العلّامة الراحل، عَلَامة الانتفاح والتسامح، هاني فحص.
ففي لحظةِ تشريع الميليشيات المذهبية في العراق والإمعان في تقويض دعائم العيش المشترك ونحْر المُواطنية وتهشيم الطابع المدني للدول الوطنية، يحمل دار العلم للإمام الخوئي كرسيّ اليونسكو في جامعة الكوفة المخصص لحوار الأديان الى معهد الدراسات الاسلامية - المسيحية في الجامعة اليسوعية لتكريم «الكومندور» سمير فرنجية الذي قيل عنه إنه قائدٌ لجيوش السلام.
لماذا كل هذا التكريم لرجلٍ لا يحمل من الألقاب الرسمية و«عرَضاً» إلا «النائب السابق» في بلادٍ يَتدافع سياسيوها، أقوياء وضعفاء، على الكراسي؟ وما سرّ حفاوة الغرب والشرق بشخصيةٍ رأسمالها العقل لا رأس المال؟ وأيّ خاصّياتٍ تجعل للمحتفى به رمزيةً عامة لا خاصة؟
لأن أجمل ما في الكلام عن سمير فرنجية - الشخص، أنه مهما قال المرء عن ريادته وثقافته ورِفعة أخلاقه ونُبله وطغيان الإنسان فيه، فلن يُتّهَم بـ «المديح» الذي لا يليق بالبك المتربع على طيبةٍ نادرة تحرسها صلابةُ العارف.
وأجمل ما في الكلام عن فرنجية - المثقّف، أنه مهما قال المرء عن لبنانيّته وعروبته، عن مسيحيته وإسلامه، عن أصالته وحداثته، فلن يصاب بشُبهة المغالاة التي لا تستوي مع تجربةِ رجلٍ لا مكان لـ «الأنا» في حياته المسكونةِ بـ «الآخر».
وأجمل ما في الكلام عن فرنجية - السياسي، أنه مهما قال المرء عن الوصْل الذي لا يتهيّبه، وعن القطْع الدائمِ القطيعة معه، وقيمه الراسخة في الحوار، فلن يؤخذ عليه التملّق لهذا الذي لا يبحث عن مريدين ولا يشبه الزعماء ولا القادة الأقوياء، هو الذي لا يشبهه إلا الناس.
نعم، أجمل ما في الكلام عن فرنجية - المشروع، أنه مهما قال المرء عن هويّاته المتصالحة وجنوحه الدائم نحو التسويات النبيلة، سيصيب بالتأكيد الخاصية الأهم في تجربة هذا العقل الشغوف بالفكرة اللبنانية كرسالةٍ إنسانيةٍ صارتْ حاجةً مع طغيانِ الاستبداد والشعبوية.
كلُّ هذا وذاك هو سمير فرنجية، الزغرتاوي ابن «عموم» لبنان وفضاءاته الرحبة. الرؤيوي الذي لم يغادره نبضُ الناس، السياسي الذي لم تشوّهه السياسة، العابرُ للمناطق والطوائف في زمنِ الحرب والسلم، داعيةُ الحوارِ والسلام.
لم يكن سمير فرنجية يحتاج في كفاحه اليومي الى مقويّات من خارج اقتناعاته وثقافته وتَراكُم تجربته للقيام بالأدوار التي لعبها... وَضعَ جانباً، وفي سنّ مبكرة، «البكواتية» في مفهومها الإقطاعي، ولم تأخذه الارستقراطية إلا في نُبْلها الثقافي، ولم يستثمر العشائرية لحجز مكانةٍ ما على المسرح.
يساريّته في زمنٍ ما، لم تَحُلْ دون كسْره الصمت مع اليمين وعبور الحواجز لنزْع فتيل العنف. ومسيحيّته كانت وطنيةً على الدوام ولا تكتمل، بالمعنى السياسي، إلا بالشراكة مع المسلمين في مختبرِ حوارٍ دائم اسمه العيش الواحد، وهو الشرط البديهي لرؤيته للدولة العميقة وللحكم والمواطنية والسيادة.
ورغم ان النزعة التصالحية هي أكثر ما يميّز سمير فرنجية، إلا ان الرجل الحالم والمجتهد دائماً لصوغ تسوياتٍ لا مساومات، لم يكن يوماً طوباوياً او من النوع الذي يهوى الصفقات. ومَن يعرفه يدرك حجم عناده في المسائل التي لا تحتمل التفريط، وصِداميته مع معسكرِ الانتهازيين والأغبياء والطائفيين والطغاة.
وتَجنُّباً للتكرار الذي ربما لن يضيف الكثير في محاولةِ وصْفٍ لن تنصف بالضرورة السبعينيّ (71 عاماً)، الذي أمضى نحو نصف قرنٍ يصارع من أجل التجديد والمصالحة، يمكن استعارة مضمون بعض ما كُتب عن سمير فرنجية وما كتبه عن تجربته التي لم تعرف السكون، وهو الذي لم يصبه الملل او الكلل.
الرئيس سعد الحريري، كتب عن صديقه سمير فرنجية انه «مرادفٌ للصمود، صمود إرادتنا في العيش معاً في بناء السلام، وفي إنجاز المصالحة رغم جميع أسباب المكوث في القطيعة الثأرية (...) والبك الإقطاعي، المسيحي، الماروني، اللبناني هو دائماً حيث لا يَتوقّع له حمضُه النووي ان يكون، فهو جعل من تَقمُّص الآخر قضيةً شخصيةً شبه جسدية».
الكاتب أحمد الغز لاحظ انه «اذا أنشأنا حزباً لأصدقاء سمير فرنجية، قد يكون من أكبر أحزاب لبنان (...) انه رجل حوارٍ وتَواضُعٍ وإصغاء، محبٌّ للحياة، متشعّبُ الوصال مع الأديان والطوائف والأحزاب، ومتعدد المجتمعات والطبقات والحقبات، لبناني، عربي الهوية (...)».
وشبّه الدكتور انطوان قربان، سمير فرنجية، بـ «لبنان الأزلي»، وكتب: «(...) انه شخصية آسرة. لا شك في انه زعيم اقطاعي بحكم نسَبه، لكنه يعيش الحياة البسيطة للأُسَر البرجوازية بعيداً عن المظاهر والادعاءات (...) هو صديقٌ وفيّ وخصمٌ يهابه أعداؤه، وصارمٌ في موقفه من حقوق الإنسان، يجسد في شخصه رمز الشجاعة والاعتدال (...)».
أما سمير فرنجية، الذي قال عن سمير فرنجية يوم مُنح وسام الشرف الفرنسي من رتبة «كومندور» ان هذا التمييز العالي المستوى يقويّ تصميمه على إكمال المعركة التي يخوضها من اجل السلام، فبدا على التصميم عيْنه في المعركة ضد عنفٍ أكثر غدراً يتربّص به، اي المرض، الذي لم يستسلم لخبثه.
أجمل الجلسات مع الـ «بك الأحمر» أو الـ «بك الأبيض» هي «الصبحية» في منزله. يجلس على الكنبة عيْنها... عيْنه على علبة السجائر التي خاصمها وربما يحنّ إليها، وغالباً ما يبدأ حديثه بـ «دعابةٍ شخصية» فيها الكثير من الودّ الذي لا يشبه المجاملات.
في «جولة الأفق»، نادراً ما يأتي سمير فرنجية على ذكر هذا السياسي او ذاك. يناقش فكره أكثر مما تأخذه المواقف «المسطّحة» بحد ذاتها، وهو المتَهَم بأنه مَصْنع مبادراتٍ وأفكار، ربما لانه لا يستسيغ دور «معقّب المعاملات» في السياسة و«مقاولاتها».
قد يجادل أحياناً ابنه او سواه بنظريةٍ لـ نيتشه او هيغل او جان بول سارتر، لكن الثابت الذي لا يبارحه على الإطلاق هم الناس العاديون، الذين يشكلون لسان حاله... فبكثيرٍ من الحبور، يتحوّل كلامه الى حكاياهم وكأنه يستدلّ منها الصواب، ليس لأنه لا يقيم وزناً للطبقة السياسية، بل لأنه يجد في نبضِ الشارع وعفويته خميرةً صادقةً لا تُفْسِدها الحسابات الخاصة.
سائق «سرفيس» استقلّه في بيروت، سيدةٌ متقدمة في العمر تملك فرن مناقيش على طريق البترون، ممرّضٌ يقود كرسيه لإجراء فحوص، عاملٌ زراعي في زغرتا، سيداتٌ يُدِرْن الكافتيريا في المستشفى، وسواهم من «الكائنات السياسية» التي غالباً ما تحضر في حوارات فرنجية الذي لا يتعب من الحوار.
هذا «الضمير الشعبي» للرجل الذي لعب أدواراً محورية وساهم في صناعة أحداثٍ كبيرة، يوازي ما يملكه من علاقاتٍ قلّما يتمتّع بها سياسيو لبنان، مع مفكّرين ومثقّفين وساسة في العالم العربي وبعض العالم الأوسع، ولا سيما فلسطين وسورية ومصر والاردن والعراق وتونس وفرنسا وسواها.
سيكون من الصعب الإطلالة على تلك الأدوار إلا لماماً... من سيارته «الفولفو» ومناشيرها الثورية أيام اليسار، الى إنقاذه أرواحاً بريئة برعايته وقفاً لحرب السيارات المفخّخة بين المتقاتلين إبان الحرب في لبنان، والتقاطه سريعاً فرصة اتفاق الطائف ومن ثم تأسيسه المؤتمر الدائم للحوار كأحد أبرز تجارب المصالحة بعد الحرب.
ولن يكون مبالغةً او انتقاصاً من أدوار رفاقه، القول إن سمير فرنجية بعلاقة «الثقة المتبادلة» التي ربطتْه بالبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير والرئيس رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط، نجح في تحويل مناهضةِ الوصاية السورية على لبنان الى معارضةٍ وطنيةٍ إسلامية - مسيحية مهّدت للاستقلال الثاني.
أذاع بيان «انتفاضة الاستقلال» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان عقلها وضميرها، وتولى إدارة الحوار مع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله لضمانِ «خروجٍ سلْمي» للجيش السوري من لبنان، وكان أوّل مَن أقرّ بأن قوى «14 آذار» خسرتْ، لكن «8 آذار» لن تربح.
كيف يمكن لمرءٍ ان يعنْون هذه المقاربة السريعة لتجربة سمير فرنجية، الذي يُكرَّم اليوم بمنحه «جائزة هاني فحص للسلام»؟... لم أجد أفضل من عنوانٍ واحدٍ: سمير فرنجية... ويكفي.