دروس «الخميس الأبيض»

تصغير
تكبير
اهم ما في تجربة «الخميس الابيض» كما طاب للمتداولين تسميته امس، انها اقنعت من يرفض الاقتناع وادت الى تصديق من يرفض التصديق، بأن اقتصادنا بخير ووضعنا المالي بخير، وان البورصة، كما قلنا قبل يومين، ليست الاقتصاد والسياسة والمجتمع وانما محطة انعكاس لبعض اوجه الاقتصاد والسياسة والمجتمع.
واهم ما في التجربة على الاطلاق ومن دون ان تكون للبعض اوهام، انها اثبتت بما لا يدع مجالا للشك ان الاجراءات التي اعتمدت على مدى السنوات السابقة لتحصين الوضع المالي كانت سليمة وحكيمة. حصنت الكويت من ازمة عالمية تحصل مرة في القرن كالتي نشهدها الآن، وساعدتها في مواجهة «الموج العالي» رغم ان «بعض» الحكومة كان يحارب في السر والعلن خطط وسياسات البنك المركزي والهيئات المالية المختصة، و«بعض» المجلس يمزج بين مصالح البلاد واصوات الناخبين، و«بعض» الفاعليات الاقتصادية يريد رسم اجراءات على قياس مشاريعه.
ولأن البورصة ليست الاقتصاد، علينا ألا نضبط مؤشرات تقييمنا على حركة التداولات. فإذا ارتفعت اليوم نقول ان الاقتصاد بخير، وان انخفضت غدا نتحدث عن كارثة... الكارثة تكمن تحديدا في هذا المفهوم.

اظهرت تجربة الامس ان اتخاذ اجراءات مساعدة من الحكومة مع اهتمام مباشر من ارفع مسؤولي الدولة، بالتزامن مع اشاعة مناخ اعلامي ايجابي... كلها اجراءات دفعت مؤشر البورصة الى القفز فوق النقاط الـ 400. القصة، إذاً، غير مرتكزة على اسباب علمية وواقعية لأن ارقام العلم والواقع تكشف واقعا سليما. القصة تكمن في طريقة التعاطي الخطأ حكوميا ونيابيا واقتصاديا مع قضية البورصة ووضعها بالنسبة للمواطن بين منطقتين لا ثالث لهما: إما جنة الربح والثروة وإما جحيم الخسارة والافلاس. 
إذا كانت مرتكزات اقتصادنا من بنوك وشركات كبرى ومؤسسات مالية... سليمة ومتعافية بل ومتقدمة، فلماذا تكون انعكاسات ذلك هلعا وخوفا لدى المتداولين؟ الازمة عالمية؟ صحيح لكن اسبابها غير موجودة لدينا وان شاء الله لا نراها. هناك افلاسات كبرى نتيجة سوء الادارة والفساد وغياب الرقابة والتحايل على الضوابط سبقت الانهيار الكبير. ومن يدعو عندنا الى التراخي في الضوابط او التغاضي في الرقابة او التسامح في مكافحة فساد تحت مسميات كثيرة بينها «تدخل الحكومة»... انما يمهد الطريق لافلاسات ومشاكل اكبر لا يعرف سوى الله نتائجها.
التدخل الوحيد المطلوب من الحكومة هو استمرار دعم المؤسسات الاقتصادية المنتجة والفاعلة، مثل البنوك التي استطاعت صد الكثير من الازمات بسياسات الامان الفاعلة التي اعتمدتها... وليس الانغماس في الحديث عن دعم مقترض او صاحب دين املا في خطف «شعبية» من سلطة اخرى.
والتدخل الوحيد المطلوب من الحكومة هو تغيير نهج التعاطي «الحزبي» مع السلطات الاخرى في البلد واقرار المشاريع التنموية الضرورية التي ما زالت حبيسة الادراج منذ عشرين عاما لما لهذا الامر من دعم اساسي للحياة الاقتصادية. «تقتحم» المشاريع الضخمة حياتنا اليومية فنسمع عن كيانات اقتصادية عملاقة في مجالات النفط والبناء والمركز المالي والجذب الاستثماري تمنح آلاف الكويتيين فرص عمل وتضخ في الدورة المالية دماء غزيرة، ثم ينتهي ذلك كله بتردد وتراجع وصفقات وتسويات... والتاريخ لن يرحم المتقاعسين في هذا المجال مهما غلفوا أعمالهم بتصريحات «تفزع» لبورصة متهاوية او تتحدث عن انجازات «عظيمة» مثل تحويل مكافآت الى موظفين.
التعاطف كامل مع كل من تعرض للخسارة، فأهل الكويت في البداية والنهاية هم اصولها. لكن رب ضارة نافعة والتعويض لا يكون بمسكنات ظرفية لعلاج ألم بل باستمرار الثقة باقتصادنا وبالحالة المالية للدولة وبالضغط على المعنيين لإطلاق المشاريع المنتجة من زنازين الحكومة والمجلس. المعادن لا تبرز سوى في الشدائد ونحن اثبتنا اننا اقوياء في الشدة واظهرنا للأقربين والأبعدين اننا كنا الاقل تضررا وسط اعصار عالمي اكل الاخضر واليابس.
مرة اخرى، البورصة ليست الاقتصاد ولا يجب ان تكون محور الحياة العامة في الكويت، لكنها صارت كذلك لأن المجالات الاخرى آفاقها مسدودة تارة بـ «الاختلاف» على اقرار المشاريع الضخمة وطورا بـ «الاتفاق» على تسويات صغيرة وصفقات سياسية. وفي الحالين، الاختلاف والاتفاق، كانت التنمية هي الضحية.
ما حصل درس كبير للجميع، لكن الاهم ان يكون مؤشر اليقظة لدى الحكومة «أخضر» من اي وقت مضى، لأن رئة الاقتصاد بحاجة الى اوكسجين طبيعي ومستمر لا الى تنشيط آلي ظرفي قد ينعكس سلبا على كل وظائف الجسد... وتحديدا على قلبه النابض.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي