لتذهب الحكومة ... ويبقى الاقتصاد

تصغير
تكبير
البورصة منهارة. الاسهم تحترق. الموقف المالي يترنح. المؤثرات النفسية تتهاوى. الازمة الدولية تصل الى سواحلنا على سفن الهلع. المدخرات تتبخر... ومع ذلك لا بد من كلام واقعي وعقلاني ومباشر لا علاقة له بالعاطفة. كلام سيبدو انه ينطلق بعكس السير لكنه عمليا في مساره الصحيح، وسيُغضب كثيرين داخل السلطة وخارجها لكنه فعليا لمصلحة الكويت الأبقى من كل السلطات.
تعرضت الكويت في القرن الماضي الى اكثر من ازمة مالية حادة، كان ابرزها سوق المناخ وما تلاها من ازمة البنوك. يومها، لم يكن ممكنا بحث الازمات من جذورها لأن الجميع كان في قلب العاصفة، لذلك حصلت تدخلات حكومية سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية آنية وسريعة وترقيعية من اجل وقف النزيف والحد من الخسائر وعودة الاوضاع المالية الى جزء من عافيتها بعدما كانت تنتظر شهادة الوفاة.
بعد ذلك تقدم البنك المركزي ووزارة المالية والمؤسسات الدائرة في فلكهما بجملة اجراءات استراتيجية على المدى الطويل لتحصين الوضع الاقتصادي بسور من الحماية والضمانات. طبعا انتقد كثيرون يومها بطء هذه الاجراءات ووقتها الطويل وآثارها غير المعتادة على دورة المال والودائع والعمل المصرفي، وارتفعت اصوات نيابية واقتصادية تنتقد وتهدد وتتوعد، وفي النهاية اثبتت التطورات ان «سور الحماية» الذي بني بحذر شديد شكل سدا حقيقيا امام الازمات المتلاحقة وآخرها الازمة المالية الدولية الراهنة التي ابتدأت بانهيار مصارف وبنوك وشركات مالية كبرى فيما مصارفنا والحمد لله وبفضل سياسات البنك المركزي متماسكة وقوية وتسير بثبات وسرعة على طرق مفتوحة الآفاق.

الازمة المالية في الولايات المتحدة التي احتلت اسواق العالم بدأت بسقوط شركات وبنوك رئيسية نتيجة تعاظم الفساد وسوء الادارة داخليا وانفلات الضوابط وغياب الرقابة من السلطات المختصة. فعندما تتوالى الاستثناءات ويتراخى المكلف بتطبيق القانون تنتشر الخسارة وتتوزع على الجميع ويدفع الثمن دائما اصحاب المدخرات وحملة الاسهم. الوضع عندنا في الكويت مختلف، فوضع البنوك الرئيسية والشركات الكبرى مستقر وقوي بفضل ضوابط «المركزي» والاجهزة المالية المختصة، والوضع المالي للدولة عموما قوي، ومع ذلك ستجد متداولا يرفع الصوت لانه خسر في البورصة، وسياسيا يرفع الصوت لانه يريد توظيف خسارات الآخرين في ارباح سياسية، وحكومة تتردد وتترنح وتضيع وتتخبط في تصريحات لا تعرف عمق ابعادها وانعكاساتها.
لنتفق على ان البورصة ليست الكويت وليست الاقتصاد الكويتي وليست المجتمع الكويتي ولا السياسة الكويتية. هي مرآة تعكس واقعا اقتصاديا واجتماعيا معينا، واحيانا سياسيا، من ضمن عشرات ومئات الركائز الاخرى. تجاهل مشاكلها خطأ كبير، لكن جعلها اهم مشاكل البلد خطأ اكبر. انهارت الاسهم اليوم؟ صحيح. تضرر متداولون؟ صحيح. لا بد من استنفار كل الجهود الحكومية وغير الحكومية لتصحيح الاوضاع واعادة التوازن؟ صحيح. لكن الانهيارات لا تقاس فقط بهبوط يحصل خلال ايام بل برقابة دقيقة لمسار اشهر، ومن يراقب ما حصل في الاشهر الماضية يمكنه ملاحظة خط بياني متصاعد عادت معه البورصة الى ما كانت عليه تقريبا قبل عام. باختصار، وضعنا الاقتصادي يشبه شجرة جذورها قوية وراسخة في الارض. يتعرض ثمرها وتتعرض اوراقها واغصانها الى العواصف والرياح فتسقط لكن ثباتها في الارض قادر على الانتاج دائما رغم كل العوامل المناخية الخارجية.
نكرر ونعيد كي لا نفهم خطأ. هناك ازمة ولا بد من استنفار كل الجهود ومن كل الجهات لمعالجتها، لكن معالجة الازمة من قبل حكومة متخبطة سريعة الرضوخ لمطالب التدخل العشوائي الترقيعي كما حصل في القرن الماضي سيولد ازمة اخرى اكبر ويهدم تدريجيا سور الحماية الذي بناه البنك المركزي على مدى سنوات. بمعنى اوضح، لا يجوز للحكومة ان تتجاوز الثوابت والحدود التي وضعها البنك المركزي لأن ذلك سينعكس سلبا على الشركات والبنوك التي ما زالت والحمد لله قوية ومتماسكة ورابحة، ولن يؤدي في المدى المنظور الى انتعاش سوق المال لأن معالجة الخلل في مكان تمت عبر استحداث خلل في مكان آخر.
نقول ذلك لأننا بدأنا نسمع اصواتا تطالب الحكومة بتدخلات عاطفية عشوائية، ولأننا بدأنا نسمع اصواتا حكومية تتحدث عن تطمينات واستعدادات للتجاوب نخاف ان تكون ظرفية وهدفها الوحيد الحماية السياسية وانعاش البورصة ليومين.
حماية الحكومة لنفسها لا تكون بهدم سور الحماية الذي بناه «المركزي» ليصون اقتصاد الكويت، واذا كانت الحكومة ضيقة الآفاق وسريعة العطب وارتجالية في قراراتها فالكويتيون يتحملون رؤية مئة مثلها ترحل لكنهم لا يتحملون رؤية اقتصاد ينهار.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي