مثقفون بلا حدود / ما وراء «الأقصوصة» السورية (1 من 3)
د. فهد سالم الراشد
هي سورية كما عهدناها؛ بلد النجباء من العباقرة والشعراء واللغويين والأدباء، هي سورية بلد الأقلام الحرّة النيّرة، بلد القرائح الخصبة والعواطف الصادقة، حينما أذكر سورية أو تذكر سورية أمامي – أنا ككويتي – أقف بكل إجلال وتقدير لمن علمني وفقهني وأدبني؛ فلا يجهل اثنان ما لسورية من فضل علينا نحن – الكويتيين – وأخص بالذكر جيل الستينات، نعم نحن مدينون لسورية بفضل التعليم؛ فالشكر كل الشكر لهذا القطر الشقيق و «من لا يشكر الناس لا يشكر الله».
كتب الروائي الصادق المشاعر المرهف الإحساسات الكاتب المصري رضا البهات، مقالا بعنوانه «الساخرون العظام... فاكهة الصحافة الدائمة» وقد بدأ الكاتب بقوله: «الكتابة الساخرة دماء حارة في شرايين صحافة صارت مثقلة بأنباء القتلى والجرحى بكل صورهم» ثم تساءل الكاتب البهات: «فهل لدينا ساخرون كبار. أو ما اصطلح على تسميتهم بـ (ظرفاء العصر)»أ.هـ.
وحينما وقعت تحت يدي ثلاثة كتيبات يحتوي كل واحد منها على مجموعة قصصية والمؤلف واحد هو الأديب السوري الأستاذ الدكتور أحمد جاسم الحسين، تحمل العناوين الآتية (همهمات ذاكرة، حب فراتي أو الزعفرانية، خبيصة). أستطيع أن أقول: نعم لدينا ساخرون كبار. ولكنهم ليس ظرفاء العصر، إنما دماء تغلي على حب هذه الأمة، ومشاعر تدمي القلوب على تماسك المجتمع العربي المسلم، وأقلام حريصة جدّ الحرص على التمسك بالهوية والقيم العربية الأصيلة، والسلوك العربي القويم، فلا أظن أنها تكتب من فراغ، بل تكتب بحرقة ومرارة لإعادة بناء البيت العربي على المحبة والإخاء والتعاون، وهذه المجموعة وإن تخللها بعض الكتابات الساخرة، إلا أن الأديب السوري أحمد جاسم الحسين، استطاع أن يصل بأريحية إلى ذهن القارئ المتلقي، ويفعّل قريحته بما يتربص بنا من خطر محدق قد يأكل الأخضر واليابس إذا لم نلتفت إلى مثلنا ومبادئنا وقيمنا قبل فوات الأوان.
ومع أول مجموعة قصصية للأديب السوري بعنوان «همهمات ذاكرة» وهي عبارة عن قصص قصيرة جدا تدخل ضمن حيّز (الأقصوصة) أستطيع أن أطلق عليها نكات قصصية أو ومضة (فلاش) وإن صح قولي عليها فهي «حكاوي»، تحتوي على عدة معانٍ كبيرة في حيـّز ضيق جدا جدا جدا جاذبة ومشوقة، عالج بها عدة قضايا عربية ودولية بأسلوب رشيق لا يمل البتة، وإن كنا نأخذ على القاص في بعض الأحايين التناقض في طرح محاور القصص.
أول قصة قصيرة جدا بعنوان «دعوة» يصور لنا الدكتور أحمد الحسين المجتمع الذكوري المحب للسلطة والتسلط، ذات النظرة الضيقة لأهمية الأنثى في بناء المجتمع والأسرة؛ وكأنها لم تخلق إلا لطاعة وخدمة الرجل وإشباع غريزة الفحولة عنده، يقول: «دعا الديك الدجاجات إلى المائدة التي أعدّتها صاحبة البيت، صفّهن بانتظام، أمرهن ألا يأكلن إلا بعد أن يشبع! اقتربت منه صاحبة المنزل والسكين في يدها لم يأبه بها، عندما حاولت ذبحه ذكّرها أنّها أنثى»ص 7.
أما في قصة «كريم» يحاول القاص السوري وبكل شجاعة استقاها من سورية الحرة العنيدة على مطالب الأعداء، فها هي نبرة العربي الشجاع تصدع حين أراد العدو الغربي أن ينال منا ويقدم كل دولة عربية تعارضه كبش فداء ولقمة سائغة للصهاينة، وكل دولة عربية لا تطأطئ الرأس للأفعى الأميركية فهي دولة مارقة في عرفه، يقول: «احتار الراعي أي خروف سيختار لضيوفه المهمّين، فالضعيفة لا تكفي! والسمينة العاقلة خسارة! لم يطل تفكيره فالكبش كان قد ضربه بقرونه من الخلف فوجدها فرصة لإكرام الضيوف المهمّين» ص16.
وينتقل بنا الناقد السوري أحمد جاسم، من الكل إلى الجزء بحركة رشيقة ليعـبر عن المجتمعات ذي السلطة المستبدة، التي تمارس القمع على المثقفين الأفذاذ الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، ويتجه ظني أن الخطأ الشائع في هذه الأيام: هو الخلط بين المثقف والمتعلم، وأذهب بذلك إلى فرق رئيس وجوهري، وهو أن المتعلم فهمه وإدراكه مقصور على علم واحد لا يتجاوزه، ومن الممكن أن يبدع فيه ولكن يظل فاقداً لتطور عجلة الزمن وإدراك ما حوله من تغيرات جذرية. أما المثقف قد يكون إنسانا لم ينهل من العلم وقراءة الكتب الشيء الكثير ولكنه مارس الحياة، وخالط المجتمع، وأصبح قلبه النابض، يتألم لألمه ويفرح لفرحه، وعندما يصارع الفرد معترك الحياة يكون أكثر نضجاً وحنكة لما قد يعتريه من تجاذب أطياف المجتمعات، يقول الدكتور عبد السلام الشاذلي في كتابه (شخصية المثقف): المثقف من حيث هو إنسان شديد التأثير في البيئة الاجتماعية المحيطة به، كما أنه في الوقت نفسه إنسان شديد التأثير في وسطه الاجتماعي، وهو في محيط عالمه وعصره وذلك لما له من قوى فكرية خاصة ومواهب روحية ونفسية متميزة.أ.هـ.
لذا أرى أن المثقف نتاج مرحلة ذات ظروف معينة، قد تكون سلبية، وقد تكون إيجابية على أنه لا يمثل ولا يتمثل برموز هذه المرحلة يتجلى ذلك في قصة«طماع»يقول القاص السوري:«سأل الضابط التركي ابن المعتز العباسي: أصحيح أنك تطمع في الخلافة؟ سيدي أنا شاعر ومثقف! قاطعه: طز- سيدي أنا لا أحب السلطة! وشعري يشهد بذلك! هز الضابط رأسه، وقال خذوه...»! ص19.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com
كتب الروائي الصادق المشاعر المرهف الإحساسات الكاتب المصري رضا البهات، مقالا بعنوانه «الساخرون العظام... فاكهة الصحافة الدائمة» وقد بدأ الكاتب بقوله: «الكتابة الساخرة دماء حارة في شرايين صحافة صارت مثقلة بأنباء القتلى والجرحى بكل صورهم» ثم تساءل الكاتب البهات: «فهل لدينا ساخرون كبار. أو ما اصطلح على تسميتهم بـ (ظرفاء العصر)»أ.هـ.
وحينما وقعت تحت يدي ثلاثة كتيبات يحتوي كل واحد منها على مجموعة قصصية والمؤلف واحد هو الأديب السوري الأستاذ الدكتور أحمد جاسم الحسين، تحمل العناوين الآتية (همهمات ذاكرة، حب فراتي أو الزعفرانية، خبيصة). أستطيع أن أقول: نعم لدينا ساخرون كبار. ولكنهم ليس ظرفاء العصر، إنما دماء تغلي على حب هذه الأمة، ومشاعر تدمي القلوب على تماسك المجتمع العربي المسلم، وأقلام حريصة جدّ الحرص على التمسك بالهوية والقيم العربية الأصيلة، والسلوك العربي القويم، فلا أظن أنها تكتب من فراغ، بل تكتب بحرقة ومرارة لإعادة بناء البيت العربي على المحبة والإخاء والتعاون، وهذه المجموعة وإن تخللها بعض الكتابات الساخرة، إلا أن الأديب السوري أحمد جاسم الحسين، استطاع أن يصل بأريحية إلى ذهن القارئ المتلقي، ويفعّل قريحته بما يتربص بنا من خطر محدق قد يأكل الأخضر واليابس إذا لم نلتفت إلى مثلنا ومبادئنا وقيمنا قبل فوات الأوان.
ومع أول مجموعة قصصية للأديب السوري بعنوان «همهمات ذاكرة» وهي عبارة عن قصص قصيرة جدا تدخل ضمن حيّز (الأقصوصة) أستطيع أن أطلق عليها نكات قصصية أو ومضة (فلاش) وإن صح قولي عليها فهي «حكاوي»، تحتوي على عدة معانٍ كبيرة في حيـّز ضيق جدا جدا جدا جاذبة ومشوقة، عالج بها عدة قضايا عربية ودولية بأسلوب رشيق لا يمل البتة، وإن كنا نأخذ على القاص في بعض الأحايين التناقض في طرح محاور القصص.
أول قصة قصيرة جدا بعنوان «دعوة» يصور لنا الدكتور أحمد الحسين المجتمع الذكوري المحب للسلطة والتسلط، ذات النظرة الضيقة لأهمية الأنثى في بناء المجتمع والأسرة؛ وكأنها لم تخلق إلا لطاعة وخدمة الرجل وإشباع غريزة الفحولة عنده، يقول: «دعا الديك الدجاجات إلى المائدة التي أعدّتها صاحبة البيت، صفّهن بانتظام، أمرهن ألا يأكلن إلا بعد أن يشبع! اقتربت منه صاحبة المنزل والسكين في يدها لم يأبه بها، عندما حاولت ذبحه ذكّرها أنّها أنثى»ص 7.
أما في قصة «كريم» يحاول القاص السوري وبكل شجاعة استقاها من سورية الحرة العنيدة على مطالب الأعداء، فها هي نبرة العربي الشجاع تصدع حين أراد العدو الغربي أن ينال منا ويقدم كل دولة عربية تعارضه كبش فداء ولقمة سائغة للصهاينة، وكل دولة عربية لا تطأطئ الرأس للأفعى الأميركية فهي دولة مارقة في عرفه، يقول: «احتار الراعي أي خروف سيختار لضيوفه المهمّين، فالضعيفة لا تكفي! والسمينة العاقلة خسارة! لم يطل تفكيره فالكبش كان قد ضربه بقرونه من الخلف فوجدها فرصة لإكرام الضيوف المهمّين» ص16.
وينتقل بنا الناقد السوري أحمد جاسم، من الكل إلى الجزء بحركة رشيقة ليعـبر عن المجتمعات ذي السلطة المستبدة، التي تمارس القمع على المثقفين الأفذاذ الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، ويتجه ظني أن الخطأ الشائع في هذه الأيام: هو الخلط بين المثقف والمتعلم، وأذهب بذلك إلى فرق رئيس وجوهري، وهو أن المتعلم فهمه وإدراكه مقصور على علم واحد لا يتجاوزه، ومن الممكن أن يبدع فيه ولكن يظل فاقداً لتطور عجلة الزمن وإدراك ما حوله من تغيرات جذرية. أما المثقف قد يكون إنسانا لم ينهل من العلم وقراءة الكتب الشيء الكثير ولكنه مارس الحياة، وخالط المجتمع، وأصبح قلبه النابض، يتألم لألمه ويفرح لفرحه، وعندما يصارع الفرد معترك الحياة يكون أكثر نضجاً وحنكة لما قد يعتريه من تجاذب أطياف المجتمعات، يقول الدكتور عبد السلام الشاذلي في كتابه (شخصية المثقف): المثقف من حيث هو إنسان شديد التأثير في البيئة الاجتماعية المحيطة به، كما أنه في الوقت نفسه إنسان شديد التأثير في وسطه الاجتماعي، وهو في محيط عالمه وعصره وذلك لما له من قوى فكرية خاصة ومواهب روحية ونفسية متميزة.أ.هـ.
لذا أرى أن المثقف نتاج مرحلة ذات ظروف معينة، قد تكون سلبية، وقد تكون إيجابية على أنه لا يمثل ولا يتمثل برموز هذه المرحلة يتجلى ذلك في قصة«طماع»يقول القاص السوري:«سأل الضابط التركي ابن المعتز العباسي: أصحيح أنك تطمع في الخلافة؟ سيدي أنا شاعر ومثقف! قاطعه: طز- سيدي أنا لا أحب السلطة! وشعري يشهد بذلك! هز الضابط رأسه، وقال خذوه...»! ص19.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com