عندما تعبر مدن الجنوب الإسباني في اتجاه جبل طارق تقفز الى مخيلتك فوراً صور السفن الحربية الاسلامية التي انطلقت من شواطئ المغرب لاحتلال الاندلس، ويحضر مشهد طارق بن زياد وهو يقول لقادة جيشه الذين خشوا من ابتلاع الموج للسفن وما فيها: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، معتبراً الوصول بسلام الى أرض الافرنج «خيرة» أو إشارة الى فتح الطريق أمام تأسيس الخلافة.
تقف أمام الصخرة الكبيرة التي اعتبرت جبلاً وتنظر الى الضفة الأخرى... من هنا مروا... من هنا فروا، وأنت أمام مضيق تاريخي لا جغرافي وفي حضرة الزمان اكثر من المكان. شريط الصور يتوالى من بناء الدولة الأموية هنا على أنقاض تلك التي أنهاها العباسيون هناك وحتى رحيل آخر جندي مسلم الى الضفة الأخرى من المضيق نفسه بحيث صار البحر أمامه والعدو وراءه.
وقبل الاسترسال في الشريط، ينقر زجاج السيارة رجل أمن بريطاني: «لماذا تقف هنا ؟ عليك أخذ مسار من اثنين واحد اذا كانت معك بضاعة تريد الإفصاح عنها ودفع جمركها وآخر اذا لم تكن معك بضاعة بحيث تخضع لتفتيش بسيط»... رجل أمن بريطاني في ما يفترض انه اسبانيا يأخذك من ابن زياد والأساطيل وقوافل المحاربين والتاريخ الى طابور الكشف عن العطور وعلب الدخان المهرب؟ شسالفة!
«السالفة» مختلفة تماماً، فجبل طارق بالنسبة الى الإسبان ارض محتلة من قبل الإنكليز، وآخر هموم الاسبان ان يتذكروا عار سقوط هذه الارض بيد المسلمين. العار عندهم ان أرضاً تابعة لهم تحظى منذ مئات السنين بنظام حكم ذاتي خاضع للتاج البريطاني، أي انك تمشي في اسبانيا ثم تعطي جواز سفرك للواقف على معبر فتمر الى دويلة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الكيلومترات الثمانية المربعة ثم تخرج منها بجوازك الى اسبانيا... نفسها.
لكن الإسباني الذي ما انفك يطالب بأرضه انما يفعل ذلك على استحياء، لانه ان رفع الصوت واحتج وحارب وزحف نائماً امام جبل طارق واستعادها فسيواجهه المغاربة والعالم ايضاً بالوضع نفسه في سبتة ومليلية... ومع ذلك فهو يمني النفس راهناً بأن يتغير مزاج الجبلطارقيين بعد تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي لان استفتاءين كبيرين حصلا في السابق رفض معهما غالبية سكان هذه الصخرة العودة الى اسبانيا، اما الآن فالوضع مختلف لان أوروبا شريان حياة هذه المستعمرة المعتمدة أساساً على الملاحة وألعاب الكمبيوتر والقمار والمنطقة الحرة اضافة الى بعض مشاريع الجيش البريطاني.
وماذا عن التاريخ الاسلامي وطارق بن زياد وموسى بن نصير والخطبة العصماء في البحر: «أيها الناس أين المفر وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مائدة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم»... «يا سيدي والله العظيم لا ندري عما تتكلم هل هذه هلوسات؟»، يسأل أنريكي الصديق الإسباني الذي ينتظر معك في طابور الجمارك، ويكمل: «هنا انت في المملكة المتحدة وحتى الطقس سيئ ايضاً، عدد السكان لا يتجاوز 30 ألفاً، هؤلاء الإنكليز وطنوا وجنسوا اناساً من مالطا ومن مستعمرات ما خلف البحار وبعض الإسبان هنا انتهازيون يعيشون على الاسواق الحرة ومحلات القمار... هذه هي تركيبة سكان جبل طارق فأي استفتاء تريده ان ينجح؟».
ثم يعطيك «سراً» تكتشف لاحقاً ان غالبية أبناء الأندلس تؤمن به، فقرب الجبل أو الصخرة الكبيرة تلفريك يحملك الى فوق إن أحببت ألا تقود السيارة بشكل عمودي مدة طويلة، وداخل الصخرة وغاباتها آلاف القرود في كثافة «سعدانية» لا تعرف أوروبا مثيلاً لها. هنا، يحذرك الجميع من إنكليز وإسبان ان تخبئ العائلات ما تحمله من أساور وحلي وسلاسل وساعات لأن القرود مغرمة بنشلها وقطعها عن الرقبة بخفة شديدة، كما تنبهك مسؤولة شباك بطاقات التلفريك البريطانية الى عدم إظهار انزعاجك من القرد أو جعله يراك مشمئزاً منه فسيؤدي ذلك الى رد فعل عدواني يجعله يصر على الاقتراب منك وربما عضك، ثم تفتح فمها وتقول لك ان اسنانه طويلة وحادة.
اذاً، دع القرد يقترب منك ولا تظهر أي مشاعر غير عاطفية أو ودودة تجاهه. هل هذا هو السر؟ يضحك انريكي ويقول: «قطعاً لا، نحن نؤمن أن وجود هذه القرود في هذه الصخرة يعني بقاء الاستعمار البريطاني لجبل طارق، والانكليز يعلمون ذلك وهم أحاطوها بأكبر محمية في العالم حرصاً على بقائها وتكاثرها، لا بل يطعمونها افضل طعام نكاية بِنَا، انما سيأتي اليوم الذي لن نكتفي معه بالدعاء والصلاة لكي تنفق هذه الحيوانات التي صارت رمزاً مقيتاً للاستعمار».
فهمنا السر، بقاء قرود الصخرة يعني بقاء الاحتلال الانكليزي، ونفوقها أو تهجيرها الى غابات افريقيا أو اميركا الجنوبية هو المؤشر الى بدء زوال الاحتلال. حسناً، لماذا لا تستعينون بأنظمة عربية تمتلك خبرة كبيرة في قتل البشر وتهجيرهم فقتل «الشواذي» عندهم أمر يسير؟ يستغرب الصديق الإسباني «حشري» للعرب والتاريخ والأندلس في كل موضوع، ويرمقني بنظرة شفقة وكأنه يفهمني بأن الأنظمة العربية التي ذكرتها لا تتعامل مع شعبها كبشر اساساً.
شكرًا أنريكي، وسامحني يا ابن زياد فهم مشغولون بالقرود أكثر من التاريخ.