عادة ما تُجمّد التحركات الديبلوماسية في الأزمات العالمية قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا ما كان منها طارئا وملحا ولا يحتمل التأجيل، لأن واشنطن تصبح في هذا الوقت مشغولة كليا بهذه الانتخابات، ومشلولة عن متابعة قضايا العالم.
وفي مثل هذا الوقت، ربما تجد الأطراف الإقليمية المعنية بأزمات الشرق الأوسط أن من الأفضل انتظار هذه الانتخابات ليتبين اتجاه الأمور في واشنطن، ويصبح ممكنا بالتالي اتخاذ الخيارات على ضوئها. فالمفاوضات اليمنية في الكويت فقدت الكثير من الزخم الذي بدأت به. وما ظهر في بدايتها على أنه ملامح تغيير في توجه الحوثيين باتجاه القبول بحل، تبخّر. وجرى تصعيد عسكري في حلب السورية، واحتدمت الأزمة السياسية في العراق.
وبما أن السائد في هذه المنطقة منذ ما قبل الحملة الانتخابية الأميركية، هو التصعيد، فإنه سيستمر ويزداد حتى موعد تلك الانتخابات.
الأرجح ان الانتخابات هذه المرة ستغير الكثير في أميركا وفي رؤيتها للعالم وتحالفاتها ومصالحها وتدخلاتها الخارجية. هذا ما تفيد به الأفكار والبرامج المطروحة في الحملة الانتخابية، والتي تشمل قضايا جديدة كانت في الماضي من المسلمات. هل سبق أن طرح أحد المرشحين مثلا خروج الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي؟ أو سحب المظلة النووية عن اليابان وكوريا الجنوبية؟ أو جعل دول الخليج، الحليف التقليدي الوثيق للولايات المتحدة، تدفع مالا مباشرا مقابل«حمايتها»؟
هذا ما يقوله علنا المرشح الجمهوري دونالد ترامب والذي سيكون مطالبا بتنفيذ جزء منه على الأقل، إذا فاز بالرئاسة. وهذا هو سبب المخاوف التي يثيرها لدى المؤسسة التقليدية في حزبه، والكثير من الأميركيين، ودول العالم سواء الحليفة أو المعادية لبلاده، التي تعودت على أنماط معينة من التحالف أو الخصومة مع الولايات المتحدة، وستكون مضطرة إلى التعود على غيرها.
ولكن ماذا لو تحقق الفوز لهيلاري كلينتون، الذي ترجحه استطلاعات الرأي حتى الآن؟
الاتجاهات السياسية الأميركية في ما خص القضايا الخارجية لا تتغير 180 درجة بحسب تغير الحزب الحاكم، فالمصالح الأميركية في العالم هي تقريبا موضع اتفاق بين الحزبين باستثناء اختلاف في الأسلوب وبعض التفاصيل، لذلك فإن ما ينطبق على الجمهوريين يصح على الديموقراطيين بدرجة قد تزيد أو تقل قليلا.
وما يبوح به ترامب سبقه إليه الرئيس باراك أوباما، وإن بلهجة أخف ووراء الأبواب المواربة، بحيث يسمع من يعنيهم الأمر. فهو الذي اتهم الحلفاء الأوروبيين والعرب بأنهم «ركاب بالمجان» في مقابلته الشهيرة مع «الاتلانتيك». ألا يعادل هذا كلام ترامب عن أنه سيجعل هذه الدول تدفع ثمن «حمايتها»؟ وهو الذي طالب دول أوروبا خلال زيارته الأخيرة لألمانيا بدفع حصة أكبر من تكاليف الأطلسي. ألا يشبه ذلك كلام المرشح الجمهوري عن أنه ينوي الانسحاب من الحلف إذا لم يدفع بقية الأعضاء حصة عادلة من هذه التكلفة؟
الولايات المتحدة تتجه للتخفف من العالم والالتفات أكثر إلى ترتيب أمورها الداخلية المعقدة، سواء فاز ترامب أم كلينتون، خصوصا وأنها اكتفت ذاتيا في المجال النفطي، بل أن النفط في كل العالم أصبح أسهل وأرخص، بدليل التخمة النفطية الحالية. والبضاعة الأميركية لا تحتاج إلى جيوش لتسويقها، لا في مجال التكنولوجيا عموما ولا العسكرية منها خصوصا، ولن ينافس أحد أميركا في كونها الممر الإجباري للتحويلات المالية في كل العالم. بل أن التركيز على التطوير في الداخل يزيد التفوق الأميركي في كل هذه المجالات.
بالنسبة لنا في هذه المنطقة. هناك نقمة أميركية كبيرة علينا، خصوصا في الأوساط النخبوية. فهم يحمّلون دول هذه المنطقة مسؤولية التطرف الإسلامي، ومسؤولية الكلفة المادية الهائلة والبشرية الباهظة التي دفعوها في تدخلاتهم العسكرية هنا.
في أحسن الأحوال ستتركنا أميركا بعد الانتخابات نتخبط في ما نحن فيه. ومنذ الآن أصبحت الإدارة الحالية بحكم غير الموجودة في ما يتعلق بشؤون المنطقة، كما لو أن ولاية أوباما الثانية انتهت بالفعل ولم تنتظر حتى موعد التسلم والتسليم في 20 يناير المقبل.
من الأفضل لدول المنطقة أن تعتاد على الغياب الأميركي، وأن تعمل على تسوية مشكلاتها بنفسها من دون انتظار مساعدة خارجية... قد لا تأتي.
husseinibr1@hotmail.com