إنصافاً للكويت ... وللشيخ سعد العبدالله

تصغير
تكبير
صعب جدا ان تخاطب قامة تاريخية بحجم قامة الدكتور احمد الخطيب، فالرجل كان بالنسبة لنا ونحن شبان على ابواب انطلاقتنا رمزا من رموز العمل السياسي والوطني، وصمام امان ضد اي شكل من اشكال تسلط الانظمة وهيمنتها، وضمانة اساسية للمشاركة الشعبية في القرار السياسي، ومصدر مباهاة ومفخرة لنا تجاه عدد كبير من الدول العربية الاخرى التي لم تكن تؤمن بالديموقراطية والتعددية والرأي الآخر ومشاركة الشعب عبر ممثليه في عمليتي الرقابة والمحاسبة.
كان لصدى صوت الخطيب في المجالس المتعاقبة دوي الثورة المتجددة في نفوسنا ضد الفساد واساءة استخدام السلطة.
كان لوجوده في المشهد السياسي حضور للوطن في وجداننا وحضور للعروبة في اهدافنا.

كانت معارضته العاقلة الهادئة الرشيدة خريطة طريق لما يجب ان تكون عليه العلاقات المتحضرة بين سلطة ومعارضة.
كانت معاركه السياسية تنتهي دائما الى نتائج تقدمية على صعيد ترسيخ دولة المؤسسات.
لم نكن ننتظر مذكراته الشيقة حقيقة لنستكشف ملامح مرحلة ما زلنا نعيشها وحقائق دوره التي عشناها فعلا وواكبناها يوما بيوم، ومع ذلك فما يقوله «الدكتور» يصح فيه القول انه تأريخ يقوده احد صناع التاريخ.
ولكن، ومن منطلق المحبة والاعجاب والاحترام وكل الود الذي نكنه للدكتور احمد الخطيب، ومن منطلق الحرص على صفحة الرجل التاريخية ناصعة البياض، وخوفا من اساءة عناصر الشطط او السهو او الاستعجال للسيرة والمسيرة، نتمنى ان يسمح لنا بالتوقف عند بعض ما ذكره تجاه بعض رجالات الكويت وعلى رأسهم الراحل الكبير سمو الامير الوالد رحمه الله الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح.
كل من قرأ من الاحياء في المذكرات رواية تمسه اعترض عليها ردا وكتابة وهذا شأنه بالطبع، لكن الشيخ سعد في دنيا الحق واختزال سيرته، رحمه الله، ببعض المواقف التي رأى الدكتور الخطيب انها عبرت عن نزعة غير ديموقراطية لديه وصولا الى اتهامه بانه لم يكن يدرك خطورة ما يحدث في اجتماع جدة الشهير قبل الغزو بأيام (المذكرات ذكرت انه اجتماع الرياض) نقول ان هذا الاختزال فيه تجن على الدور الكبير والتاريخي الذي قام به ابو فهد قبل غزو الكويت وخلاله وبعده. فكما ان الدكتور عاصر المرحلة بعين المشارك لا المراقب فهناك كثيرون غيره عاصروا المرحلة بالعين نفسها اضافة الى ان غالبية الكويتيين عاصرت المرحلة بقلب المحب للشيخ سعد الذي لعب دورا عملاقا في الالتصاق بالكويتيين وتثبيت ايمانهم بالنصر والعودة، وهو دور لا يمكن لآخرين ان يلعبوه... بل لا نعتقد ان ما قام به سعد العبد الله يمكن ان يتكرر.
دقائق وحقائق الدور الذي لعبه الامير الوالد الراحل لها مؤرخوها ايضا ممن عايشوها، وإنصاف الرجل يظهر مع كل رد منطقي وموثق، ومن عمل معه عن قرب، حتى ولو اختلف معه في بعض الامور، يعرف تماما حجم المسؤولية التي تنكبها وحجم الاثقال التي حملها على كتفيه. كان رحمه الله يسأل عن كل كويتي داخل الوطن المحتل وخارجه. كان الكبير الذي وسع خريطة الكويت لتشمل كل العالم بعدما عمل «الشقيق» التقدمي العروبي الوحدوي على محو حدودنا من الخريطة. كان همه الوحيد ألاَّ يعيش الكويتي مرارة الهوان بعدما عاش مرارة الاحتلال. كانت تنقلاته بمثابة وطن يحمله من المملكة العربية السعودية الى كل شارع وحي سكنه كويتي مهجر ليؤكد له ان العودة اقرب اليه مما يعتقد وان القاعدة العربية التقدمية الثورية القاضية بابقاء الوضع على ما هو عليه خصوصا اذا اقترن بشعارات الوحدة وتحرير فلسطين هي قاعدة لها استثناء عند قيادة شرعية كويتية قدمت للعرب والعروبة الكثير الكثير من التحضر والافادة والانجاز... والقليل القليل من الشعارات.
في الحرص على الشرعية، ابى الشيخ سعد إلا أن يكون المغفور له الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد في موقعه الطبيعي قائدا لعملية التحرير والرمز الشرعي لدولة مقاومة يلتف حولها جميع الكويتيين. وفي اعادة بناء الحياة السياسية بعد التحرير، ابى الشيخ سعد إلا أن يكون صوت التوافق الوطني فوق اي صوت آخر. وفي اعادة بناء الدولة بعد التحرير، ابى الشيخ سعد ان يستكين للمخاطر الامنية المحدقة من داخل وخارج فكانت الوحدة الوطنية هاجسه واليقظة الدائمة هدفه. وفي اعادة بناء علاقات الكويت الخارجية بعد التحرير، ابى الشيخ سعد الا السير بخطين متوازيين: خط الترفع والتسامح وخط المصارحة وقول الاشياء بمسمياتها للمخطىء والمسيء.
لا يمكننا حين نتحدث عن سعد العبد الله ان نوثق المراحل بدقائقها وتفاصيلها، فالعاطفة التي يكنها الكويتيون له هي التأريخ بعينه.
اختلف مع البعض؟ صحيح.
ضاق صدره سياسيا في بعض المواقف داخليا؟ ربما، لكن التطورات اثبتت ان «ضيق صدره» كان اوسع بكثير من رحابة صدر ليبيراليين وتقدميين ويساريين واسلاميين تولوا مناصب مهمة في الكويت وتعالوا وتكبروا (نعم تكبروا) ورفضوا حتى سماع الرأي الآخر... ناهيك عن «رحابة صدر» الانظمة القومية الوحدوية الديموقراطية التقدمية الشعبية الاشتراكية التي صفق بعضنا لها وهتف لقادتها وحشد لها مسيرات التأييد في العقود الماضية... وكان يجدر برموزها التعلم من انسانية الشيخ سعد في الحكم والسلطة.
كانت له مواقف ورؤى مغايرة؟ ايضا صحيح. تغلب الهاجس الامني في احيان كثيرة لديه على الحراك السياسي؟ امر لا يجادل فيه احد، لكن احدا لا يمكنه ان يختزل تاريخ الرجل بهذه الخلافات والاختلافات. هي محطات حقيقية في مسيرته لكنها لا تشكل سوى مسافات قليلة من مساحتها، ويكفي ان الرجل وصل الى نهاية الطريق مثخنا بجراح التحرير واعادة البناء دافعا اغلى ما يملك ثمنا لحبه للمسؤولية ودفاعه عن وطنه وشعبه.
كان قلب الشيخ سعد ديوانيته الاكبر. قلب لا يعرف سوى السماح وسحنة لا تعرف سوى السماحة. اثقل المرض كتفيه لكنه لم يحن. ظهره ولم يخفض هامته، وعندما كبر الحمل عليه لم يستجب لنداء الاطباء والمحبين بأن يستريح من عناء المسؤولية مفضلا العطاء والعطاء والعطاء حتى الرمق الاخير.
لقب «الامير الوالد» فصل عليه تفصيلا، فقد كان اميرا وكان والدا. لم تطو. دموعنا في فراقه صفحاته من الذاكرة. لم تنسنا الايام شعور اليتم الذي تولد لحظة سمعنا نبأ الرحيل... ولم يرتحل وفاؤنا بالغياب بل زاده الغياب حضورا.
نتمنى ان يرى استاذنا الدكتور احمد الخطيب في سيرة الراحل الكبير الشيخ سعد العبد الله ما هو اكثر من محطات معينة اختزل بها المسيرة لأن الانتقائية هي العدو الاكبر للتوثيق. نتمنى ان يذكر في مذكراته كيف خرجت الكويت عن بكرة ابيها، بعفوية وتلقائية ومن دون «أوامر السلطة» او «تعميم الحزب»، لاستقبال الشيخ سعد يوم عاد من رحلة المرض، فمشاعر الناس ومحبتهم ووفاؤهم وولاؤهم هي الاسطر الحقيقية للحكم... والتأريخ.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي