مثقفون بلا حدود
أزمة المصطلحات والمسميات بين الإعلاميين واللغويين
في خضم الصراع الذي يمر به الإعلام العربي، يتعرض مفهوم «المصطلح» إلى أزمة حقيقية وسط ثلاث بؤر عميقة، لا يتخطى واحدة إلاّ تأزم في الثانية ولا ينهض من الثانية إلاّ غرق في الثالثة. إن الصراع الذي يمر به «المصطلح الإعلامي العربي» يمكن أن نحصره بالآتي: (الصراع الغربي - العربي، الصراع الإسرائيلي - العربي، الصراع العربي - العربي). هذه هي الصراعات الرئيسة - حسب ظننا - التي جعلت من الإعلاميين العرب في محنة حقيقية ودوائر مغلقة في شتى المجالات سواء أكان ذلك في نشرات الأخبار أم نشرات الأحوال الجوية أم الأخبار الرياضية أم الأخبار الثقافية والفنية وغيرها من الأخبار اليومية التي تمسّ مناحي الحياة.
إن «المصطلح الإعلامي العربي» خرج من رحم اللغة العربية؛ فبالتالي هناك علاقة حميمة بين اللغة العربية الأم الحاضنة لهذا الوليد المسمى بـ «المصطلح الإعلامي العربي» من التعرض إلى أزمة تكمن بعدم قدرته على مواكبة ما يدور حوله من أحداث جسام، أو التوفيق بين الأطراف المتنازعة على بعض المسميات. لا نريد أن نفقد الثقة بهذه الأم - أعني اللغة العربية - من عدم القدرة على مواكبة لغة العصر، كما نرفض أن نتذبذب بين أخذ ورد خوفا على لغتنا العربية من الاندثار، فهذه مغالطات لا صحة لها.
يقول الدكتور محمود فهمي حجازي: «كثيرة هي التناقضات: مثل القول بأن اللغة العربية أغنى اللغات ثم الزعم بأن العربية فقيرة في المصطلحات، ومثل القول أن العربية لغة المسلمين وحدهم وكأن للعرب من غير المسلمين لغة أخرى، ومثل القول أن العربية لغة التراث فقط، وكأن على العرب المعاصرين أن يبحثوا لأنفسهم عن لغة أخرى». و(المصطلح) مصدر ميمي من (اصطلح)، نقل إلى الاسمية بتخصيصه بهذا المدلول الجديد. وقد أطبق اللغويون العرب المعاصرون على استعمال كلمة (مصطلح)، فذاعت في مصنفاتهم. والمصطلح أو الاصطلاح هو اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص. وينقل الجرجاني (861 هـ) مجموعة من تعريفات المصطلح فيقول: والاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما، ينقل عن موضعه الأول. والاصطلاح: إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى.
وقيل الاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد. وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين، ولعلني أتساءل هنا: هل المصطلح لفظ نحت من صلح وطال؟ أما عن «المصطلح الإعلامي» فأقول: «المصطلح الإعلامي» صغير في حجمه كبير في معناه، يوضع في حيّز ضيق ومساحة محدودة، ليرسم لك أبعادا مترامية الأطراف والأفكار. من الخطأ بمكان أن نرمي اللوم على الإعلامي في استخدامه الخطأ لبعض المصطلحات والمسميات؛ فالإعلامي لا ذنب له بمن كتب له هذه المصطلحات، نعم: قد يصحح بحسّه اللغوي بعض الأخطاء في صياغة الأخبار حين قراءتها من لوحة العرض، من مثل رفع الفاعل ونصب المفعول به وجر المضاف إليه، أو يقرأ قراءة صحيحة لغويا للبنية الصرفية لبعض الكلمات من مثل (خدمات) بكسر الخاء وتسكين الدال، التي - دائما وأبدا - تقرأ خطأ بفتح الخاء والدال معا، أو يقرأ خطأ (ومن ثم) بضم الثاء، والصحيح فتحها. أما أن يقوم بتغيير أو تبديل مصطلح وضع له على لوحة العرض؛ فهذا ليس من شأنه. حتى لو حمل هذا المصطلح أبعادا سياسية واجتماعية وعقائدية وغيرها، فإن المعني في ذلك هو اللغوي، حيث إن هناك فرقا كبيرا بين من يتكلم العربية و المشتغل باللغة العربية، واللغوي هو المشتغل باللغة العربية، لذا؛ ينبغي عليه اختيار المصطلح الصحيح أولا، والمناسب ثانيا، ثم بعد ذلك يصوغ الخبر، ليقدم إلى الإعلامي لقراءته على الملأ، وعلى الإعلام العربي أن يعتمد على لغوي ضليع ومتخصص ومتابع لقرارات المجامع اللغوية، ومطلع على منشورات المنظمات العربية المتخصصة ومراكز التعريب والترجمة والمعاهد العربية المنبثقة عن جامعة الدول العربية.
هناك أراض وأقاليم وصحارى وخلجان و جزر متنازع عليها وعلى تسميتها، ما ذنب الإعلامي حين ينطقها كما وضعت له، ثم يفاجئ بأنه ممنوع من دخول دولة ما لأن هذا النطق أساء لسيادة هذه الدولة، أيضا قتلى الأطراف المتنازعة ذات عقيدة واحدة، أيهما الشهيد؟ من يقتل من حركة فتح على يد حركة حماس أم من يقتل من حماس على يد فتح؟ وقس على ذلك بقية الأطراف المتنازعة هنا وهناك. إن الصراع العربي-العربي- الذي يهمني في هذا المقال - وجد منذ وجود الخلافة الإسلامية العربية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهناك من اعترض على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهناك من لم يوافق على خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهناك من تحفظ على خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهناك من وقف ندا لخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتوالت الاختلافات وفسّرت النصوص على هوى أصحابها، ما يدل أن المصطلح الإعلامي العربي ليس عاجزا وليس غريبا على ساحة الاختلاف والمناوشة - لاسيما - بعد خلافة معاوية ومن بعده ابنه يزيد وقيام الدولة الأموية، وانهيارها وقيام الدولة العباسية التي اعتمدت في ترسيخ خلافتها على خطب بلاغية قوية من مثل تلك التي قرأنها عن أبي جعفر المنصور حينما عزل، ثم قتل قائده أبا مسلم الخرساني.
وظل العالم العربي الإسلامي بقيادة لغة القرآن الكريم سيد الموقف حتى سقوط الدولة العباسية على يد المغول، وحتى سقوط الأندلس بيد الإسبان وهي فترة ثرية جدا بالجدل والنقاش والأخذ والرد والتجاذب السياسي بين دويلات العالم العربي الإسلامي، ما يدل أن المصطلح الإعلامي العربي دائما في توليد وتطوير؛ لأن الدول اعتمدت على اللغويين والبلاغيين في خطبها وصياغة أخبارها، والأصمعي هو خير دليل على ذلك.
تيمنا بالمثل القائل «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه»، وجب علينا معرفة قدرة اللغة العربية على توليد المصطلحات في شتى أنواع العلوم، وفي الوقت ذاته يجب ألا نجهل حجم وقدرة لغة إعلام الغير أو نستهين به، ولن نتمكن من مسايرة الحدث الإعلامي ومواكبة المصطلح الإعلامي العالمي، إلا إذا تم تسوية الخلاف بين الدول العربية قاطبة المتجاورة منها وغير المتجاورة، وكذلك المقاربة بين الأحزاب والتيارات والمذاهب العربية كخطوة أولى لتسوية المصطلحات الإعلامية والاتفاق عليها، ولعل العقبة الكبرى التي تحول دون ذلك أن معظم القنوات الفضائية الخاصة والصحف والمجلات الخاصة مسيسة ومجيرة إلى جهات معينة، ما يفقدنا السيطرة على كيفية استخدامها وتناولها للمصطلحات المتعارف والمتفق عليها. إذن لا بد أن تخضع إلى رقابة صارمة إما من قبل الدول التي تبثها وتصدرها واما من قبل جامعة الدول العربية، ثم إن هناك عدة عقبات فرعية منها: أن جسر التعاون بين المجامع اللغوية العربية مفقود، ففي الوقت الذي يصدر أحد مجامع اللغة العربية قرارا أو توصية يجيز فيهما مصطلحا أو تراكيب شائعة الاستعمال، ترفضه المجامع العربية الأخرى أو بعضها، وقد يكون هذا الرفض في محله، فنحن لا نريد من أي مجمع للغة العربية أن يلد لنا مصطلحا أشبه بالمسخ المشوّه، الذي قد يكون عرضة للتحوير والتأويل.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com
إن «المصطلح الإعلامي العربي» خرج من رحم اللغة العربية؛ فبالتالي هناك علاقة حميمة بين اللغة العربية الأم الحاضنة لهذا الوليد المسمى بـ «المصطلح الإعلامي العربي» من التعرض إلى أزمة تكمن بعدم قدرته على مواكبة ما يدور حوله من أحداث جسام، أو التوفيق بين الأطراف المتنازعة على بعض المسميات. لا نريد أن نفقد الثقة بهذه الأم - أعني اللغة العربية - من عدم القدرة على مواكبة لغة العصر، كما نرفض أن نتذبذب بين أخذ ورد خوفا على لغتنا العربية من الاندثار، فهذه مغالطات لا صحة لها.
يقول الدكتور محمود فهمي حجازي: «كثيرة هي التناقضات: مثل القول بأن اللغة العربية أغنى اللغات ثم الزعم بأن العربية فقيرة في المصطلحات، ومثل القول أن العربية لغة المسلمين وحدهم وكأن للعرب من غير المسلمين لغة أخرى، ومثل القول أن العربية لغة التراث فقط، وكأن على العرب المعاصرين أن يبحثوا لأنفسهم عن لغة أخرى». و(المصطلح) مصدر ميمي من (اصطلح)، نقل إلى الاسمية بتخصيصه بهذا المدلول الجديد. وقد أطبق اللغويون العرب المعاصرون على استعمال كلمة (مصطلح)، فذاعت في مصنفاتهم. والمصطلح أو الاصطلاح هو اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص. وينقل الجرجاني (861 هـ) مجموعة من تعريفات المصطلح فيقول: والاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما، ينقل عن موضعه الأول. والاصطلاح: إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى.
وقيل الاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد. وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين، ولعلني أتساءل هنا: هل المصطلح لفظ نحت من صلح وطال؟ أما عن «المصطلح الإعلامي» فأقول: «المصطلح الإعلامي» صغير في حجمه كبير في معناه، يوضع في حيّز ضيق ومساحة محدودة، ليرسم لك أبعادا مترامية الأطراف والأفكار. من الخطأ بمكان أن نرمي اللوم على الإعلامي في استخدامه الخطأ لبعض المصطلحات والمسميات؛ فالإعلامي لا ذنب له بمن كتب له هذه المصطلحات، نعم: قد يصحح بحسّه اللغوي بعض الأخطاء في صياغة الأخبار حين قراءتها من لوحة العرض، من مثل رفع الفاعل ونصب المفعول به وجر المضاف إليه، أو يقرأ قراءة صحيحة لغويا للبنية الصرفية لبعض الكلمات من مثل (خدمات) بكسر الخاء وتسكين الدال، التي - دائما وأبدا - تقرأ خطأ بفتح الخاء والدال معا، أو يقرأ خطأ (ومن ثم) بضم الثاء، والصحيح فتحها. أما أن يقوم بتغيير أو تبديل مصطلح وضع له على لوحة العرض؛ فهذا ليس من شأنه. حتى لو حمل هذا المصطلح أبعادا سياسية واجتماعية وعقائدية وغيرها، فإن المعني في ذلك هو اللغوي، حيث إن هناك فرقا كبيرا بين من يتكلم العربية و المشتغل باللغة العربية، واللغوي هو المشتغل باللغة العربية، لذا؛ ينبغي عليه اختيار المصطلح الصحيح أولا، والمناسب ثانيا، ثم بعد ذلك يصوغ الخبر، ليقدم إلى الإعلامي لقراءته على الملأ، وعلى الإعلام العربي أن يعتمد على لغوي ضليع ومتخصص ومتابع لقرارات المجامع اللغوية، ومطلع على منشورات المنظمات العربية المتخصصة ومراكز التعريب والترجمة والمعاهد العربية المنبثقة عن جامعة الدول العربية.
هناك أراض وأقاليم وصحارى وخلجان و جزر متنازع عليها وعلى تسميتها، ما ذنب الإعلامي حين ينطقها كما وضعت له، ثم يفاجئ بأنه ممنوع من دخول دولة ما لأن هذا النطق أساء لسيادة هذه الدولة، أيضا قتلى الأطراف المتنازعة ذات عقيدة واحدة، أيهما الشهيد؟ من يقتل من حركة فتح على يد حركة حماس أم من يقتل من حماس على يد فتح؟ وقس على ذلك بقية الأطراف المتنازعة هنا وهناك. إن الصراع العربي-العربي- الذي يهمني في هذا المقال - وجد منذ وجود الخلافة الإسلامية العربية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهناك من اعترض على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهناك من لم يوافق على خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهناك من تحفظ على خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهناك من وقف ندا لخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتوالت الاختلافات وفسّرت النصوص على هوى أصحابها، ما يدل أن المصطلح الإعلامي العربي ليس عاجزا وليس غريبا على ساحة الاختلاف والمناوشة - لاسيما - بعد خلافة معاوية ومن بعده ابنه يزيد وقيام الدولة الأموية، وانهيارها وقيام الدولة العباسية التي اعتمدت في ترسيخ خلافتها على خطب بلاغية قوية من مثل تلك التي قرأنها عن أبي جعفر المنصور حينما عزل، ثم قتل قائده أبا مسلم الخرساني.
وظل العالم العربي الإسلامي بقيادة لغة القرآن الكريم سيد الموقف حتى سقوط الدولة العباسية على يد المغول، وحتى سقوط الأندلس بيد الإسبان وهي فترة ثرية جدا بالجدل والنقاش والأخذ والرد والتجاذب السياسي بين دويلات العالم العربي الإسلامي، ما يدل أن المصطلح الإعلامي العربي دائما في توليد وتطوير؛ لأن الدول اعتمدت على اللغويين والبلاغيين في خطبها وصياغة أخبارها، والأصمعي هو خير دليل على ذلك.
تيمنا بالمثل القائل «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه»، وجب علينا معرفة قدرة اللغة العربية على توليد المصطلحات في شتى أنواع العلوم، وفي الوقت ذاته يجب ألا نجهل حجم وقدرة لغة إعلام الغير أو نستهين به، ولن نتمكن من مسايرة الحدث الإعلامي ومواكبة المصطلح الإعلامي العالمي، إلا إذا تم تسوية الخلاف بين الدول العربية قاطبة المتجاورة منها وغير المتجاورة، وكذلك المقاربة بين الأحزاب والتيارات والمذاهب العربية كخطوة أولى لتسوية المصطلحات الإعلامية والاتفاق عليها، ولعل العقبة الكبرى التي تحول دون ذلك أن معظم القنوات الفضائية الخاصة والصحف والمجلات الخاصة مسيسة ومجيرة إلى جهات معينة، ما يفقدنا السيطرة على كيفية استخدامها وتناولها للمصطلحات المتعارف والمتفق عليها. إذن لا بد أن تخضع إلى رقابة صارمة إما من قبل الدول التي تبثها وتصدرها واما من قبل جامعة الدول العربية، ثم إن هناك عدة عقبات فرعية منها: أن جسر التعاون بين المجامع اللغوية العربية مفقود، ففي الوقت الذي يصدر أحد مجامع اللغة العربية قرارا أو توصية يجيز فيهما مصطلحا أو تراكيب شائعة الاستعمال، ترفضه المجامع العربية الأخرى أو بعضها، وقد يكون هذا الرفض في محله، فنحن لا نريد من أي مجمع للغة العربية أن يلد لنا مصطلحا أشبه بالمسخ المشوّه، الذي قد يكون عرضة للتحوير والتأويل.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com