فكرة لبكرة / النحت في اللغة العربية... مصطلح بين القبول والرفض (2 من 2)
د. فهد سالم الراشد
بعد أن عرضت فكرتي في المقال الفائت حول الاستفادة من النحت في لغتنا المعاصرة، نتطرق الآن إلى رأي مجمع اللغة العربية في القاهرة حول النحت. كان لرأي ابن فارس في النحت الذي عدّه مذهب قائلا: «وهذا مذهبنا في أن الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت» حول النحت وما يتعلق به، مثار جدل حاد بين علماء اللغة، ولعله لم يجد استحسان الأغلبية، وقد ذكر ذلك صراحة الدكتور يوسف غليسي قائلا: «وقد دافع عن هذا الرأي (الشاذ !) – يعني رأي ابن فارس بالنحت – قلة من اللغويين المحدثين، فيما أثار اعتراض نفر من الباحثين الآخرين كرمضان عبد التواب وعلي عبد الواحد وافي وجميل الملائكة ووجيه السمان ورمسيس جرجس..، وفي مقدمة هؤلاء جميعا مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي أصدر قرارين بشأن النحت، تضمن أولهما (1948) حكما على ابن فارس بأنه«ركب التعسّف والشطط في حمل ما زاد على ثلاثة أحرف على النحت»،... بينما جاء القرار الثاني (سنة 1965) على قدر كبير من المرونة: «النحت ظاهرة لغوية احتاجت إليها اللغة قديما وحديثا، ولم يلتزم فيه الأخذ من كل الكلمات ولا موافقة الحركات والسكنات، وقد وردت من هذا النوع كثرة تجيز قياسيته ومن ثم يجوز أن ينحت من كلمتين أو كثر اسم وفعل عند الحاجة، على أن يـُراعى ما أمكن استخدام الأصلي من الحروف من دون الزوائد، فإن كان المنحوت اسما اشترط أن يكون على وزن عربي والوصف منه بإضافة ياء النسب، وإن كان فعلا كان على وزن فعـْلل أو تفعـْلل إلا إذا اقتضت الضرورة غير ذلك، وذلك جريا على ما ورد من الكلمات المنحوتة».
حقيقة لا أرى معنى لاستخدام كلمة (الشاذ) من قبل الدكتور/ يوسف وغليسي، فرأي ابن فارس حول النحت ليس شاذا، بل فيه شيء من الصحة، وهذا ما أثبتته الدراسات اللغوية التي سوف نذكرها في هذا البحث، بدليل أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد تراجع عن قراره الجائر الذي أصدره عام 1948، على مذهب ابن فارس، وأنا بدوري أطالب بحذف هذا القرار وكأنه لم يكن لوجود كلمتين هما (التعسف) و (الشطط) اللتين لا تليقان بمكانة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والاكتفاء بقرار 1965، الذي جاء سلسا ومرنا وموضوعيا.
يخطئ من يقسم العلماء والباحثين اللغويين إلى ثلاثة أقسام قسم رافض للنحت وقسم موافق للنحت وقسم وقف وسطا بين هؤلاء وهؤلاء، والحقيقة هما قسمان ليس غير قسم رافض تماما للنحت والقسم الآخر يضع شروطا لاستعمالات النحت، فلنبدأ بالدكتور تمام حسان، الذي ضرب لنا مثالا في إدماج لفظي (الزمان – المكان) في كلمة واحدة (الزمكانية) التي تعد نحتا؛ إلا أن الدكتور تمام حسان، ابتعد عن مصطلح (النحت) وعوضه بمصطلح (الإدماج) قائلا: «وما عرف عن طريقة الإدماج نحو إدماج لفظي الزمان والمكان في كلمة (الزمكانية) وإنما جاءت طريقة الإدماج هذه لمحدودية ظاهرة الإلصاق في اللغة العربية واقتصارها على لواصق بعينها كالتي ذكرناها منذ قليل. ومن هنا ينتظر لهذه الظاهرة أن تعين على ترجمة المصطلحات ذات اللواصق من اللغات الأجنبية إلى العربية كترجمة كلمة super – sonic إلى (فوصوتي) بإدماج لفظي (فوق) و (صوتي). ولا بأس في استعمال (الإدماج) في لغة العلم فقط دون أن يتعداها إلى ما عداها، ولا بأس كذلك في إحياء المهجور واستعمال المهمل لأغراض علمية».
وللدكتور جميل الملائكة رأي معارض لوجود النحت في العربية أو من العربية، حيث يقول إن «ما نحته العرب الخلص قبل الإسلام لم يتجاوز خمسة ألفاظ لا غيرها، استعملوها في النسبة إلى بعض أسماء القبائل المركبة تركيبا إضافيا، وهي (تيملي: تيم اللات - عبدري: عبد الدار- عبشمي: عبد شمس - عبقسي: عبد قيس - مرقسي: امرئ القيس)، ولعل ما يدعيه الدكتور جميل، هو إجحاف بحق ضرب مهم من ضروب اللغة العربية؛ فبمجرد وجوده في اللغة العربية، لا شك بأنه سوف يسهم في تطورها ونموها وصلاحيتها في كل مكان وزمان، لأن القضية هنا ليست قضية قلة أو كثرة الاستعمال، بقدر ما هو موجود كأساس يبنى عليه مصطلحات جديدة معاصرة، وهل العرب الخلص – على حد قوله – موجودون قبل الإسلام؟!
ويطالب الدكتور علي القاسمي، بـ«عدم التوسع باستعماله في توليد المصطلحات الجديدة لأنه يتنافى مع الذوق العربي ولأن المنحوت يطمس معنى المنحوت منه». أرى أن هذه نظرة ضيقة ومحدودة، لا تخدم اللغة العربية؛ فأي مصطلح غير مستساغ اليوم، سوف يأتي يوم يستساغ فيه مثل (البتروكيماوي) وغيره، وهذا ما أيده الدكتور إبراهيم أنيس قائلا:«... نشعر أن النحت في بعض الأحيان ضروري يمكن أن يساعد على تنمية الألفاظ في اللغة، لذا نرى الوقوف منه موقفا معتدلا، ونسمح به حين – تدعو الحاجة الملحة إليه».أما الدكتور/ حامد صادق قنيبي فـ«جعل من النحت»أحد روافد تنمية اللغة المعاصرة، وخاصة في مجال المصطلحات العلمية، والألفاظ الحضارية التي يكثر دورانها على ألسنة الناس، ولكنه رافد يأتي في المرتبة الأخيرة"... مضيفا«أنه يجب ألا نعلق الآمال العريضة على النحت، كما لا ينبغي أن نوصد بابه فللنحت فوائد في تيسير الاختصار فحسب، فإذا أدى هذا الاختصار إلى ولادة الغرائب الممجوجة على الألسن، والعسيرة على الأسماع فالأولى هجره والصدود عنه، وربما كان في الترجمة بكلمتين مندوحة لنا عن غريب النحت». الدكتور حامد صادق قنيبي، قدم رجلا وأخر أخرى، هو مع النحت، وفي الوقت ذاته هو ضده، دون أن يقدم معيارا واضحا، لذا جاءت عبارته مضطربة لا نفهم منها ماذا يريد بالضبط، أنلغي النحت أم نعمل به؟ ولعل عبارة د. محمد ضاري حمادي على قصرها جاءت واضحة حيث يقول: «للنحت فوائد في تيسير الاختصار، والتوليد للجديد من الكلمات»، ولكن ما يجب الوقوف عليه في شأن النحت أمران يراهما غاية في الأهمية: «الأول – متى ننحت؟ والآخر – كيف ننحت؟». وتقول الدكتورة وجيهة السطل: «النحت فعلا وسيلة تساعدنا في الحصول على مصطلح جديد في اللغة العربية حين تعجزنا الوسائل الأخرى، ولكن الوسيلة إذا كانت بلا ضابط ينظمها، ويبين للجميع طريقة الحصول عليها، تحولت – إذا أبحناها مطلقا – إلى نوع من الفوضى والعبث بألفاظ اللغة...». ولعل الأقرب إلى المعيارية ما قاله أحمد شفيق الخطيب إن «المواصفة المـُصطلحية السليمة في العلوم، بل حتى في ما سواها، تقتضي أن تكون المنحوتات واضحة المعنى سلسة المبنى بعيدة عن الإبهام وما يـَمـُجـُّهُ الذوق لغرابته وحوشيته. ومن هذا المنطلق دخل اللغة العلمية خلال القرن الحالي، بداعي الضرورة العلمية، عشرات من المنحوتات لا قى بعضها رواجا ومقبولية مثل الصفات(برمائي في amphibian، كهرمغناطيسي أو كهرمغنيطي في electromagnet، جيوفيزيائي في geophysical)».
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com
حقيقة لا أرى معنى لاستخدام كلمة (الشاذ) من قبل الدكتور/ يوسف وغليسي، فرأي ابن فارس حول النحت ليس شاذا، بل فيه شيء من الصحة، وهذا ما أثبتته الدراسات اللغوية التي سوف نذكرها في هذا البحث، بدليل أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد تراجع عن قراره الجائر الذي أصدره عام 1948، على مذهب ابن فارس، وأنا بدوري أطالب بحذف هذا القرار وكأنه لم يكن لوجود كلمتين هما (التعسف) و (الشطط) اللتين لا تليقان بمكانة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والاكتفاء بقرار 1965، الذي جاء سلسا ومرنا وموضوعيا.
يخطئ من يقسم العلماء والباحثين اللغويين إلى ثلاثة أقسام قسم رافض للنحت وقسم موافق للنحت وقسم وقف وسطا بين هؤلاء وهؤلاء، والحقيقة هما قسمان ليس غير قسم رافض تماما للنحت والقسم الآخر يضع شروطا لاستعمالات النحت، فلنبدأ بالدكتور تمام حسان، الذي ضرب لنا مثالا في إدماج لفظي (الزمان – المكان) في كلمة واحدة (الزمكانية) التي تعد نحتا؛ إلا أن الدكتور تمام حسان، ابتعد عن مصطلح (النحت) وعوضه بمصطلح (الإدماج) قائلا: «وما عرف عن طريقة الإدماج نحو إدماج لفظي الزمان والمكان في كلمة (الزمكانية) وإنما جاءت طريقة الإدماج هذه لمحدودية ظاهرة الإلصاق في اللغة العربية واقتصارها على لواصق بعينها كالتي ذكرناها منذ قليل. ومن هنا ينتظر لهذه الظاهرة أن تعين على ترجمة المصطلحات ذات اللواصق من اللغات الأجنبية إلى العربية كترجمة كلمة super – sonic إلى (فوصوتي) بإدماج لفظي (فوق) و (صوتي). ولا بأس في استعمال (الإدماج) في لغة العلم فقط دون أن يتعداها إلى ما عداها، ولا بأس كذلك في إحياء المهجور واستعمال المهمل لأغراض علمية».
وللدكتور جميل الملائكة رأي معارض لوجود النحت في العربية أو من العربية، حيث يقول إن «ما نحته العرب الخلص قبل الإسلام لم يتجاوز خمسة ألفاظ لا غيرها، استعملوها في النسبة إلى بعض أسماء القبائل المركبة تركيبا إضافيا، وهي (تيملي: تيم اللات - عبدري: عبد الدار- عبشمي: عبد شمس - عبقسي: عبد قيس - مرقسي: امرئ القيس)، ولعل ما يدعيه الدكتور جميل، هو إجحاف بحق ضرب مهم من ضروب اللغة العربية؛ فبمجرد وجوده في اللغة العربية، لا شك بأنه سوف يسهم في تطورها ونموها وصلاحيتها في كل مكان وزمان، لأن القضية هنا ليست قضية قلة أو كثرة الاستعمال، بقدر ما هو موجود كأساس يبنى عليه مصطلحات جديدة معاصرة، وهل العرب الخلص – على حد قوله – موجودون قبل الإسلام؟!
ويطالب الدكتور علي القاسمي، بـ«عدم التوسع باستعماله في توليد المصطلحات الجديدة لأنه يتنافى مع الذوق العربي ولأن المنحوت يطمس معنى المنحوت منه». أرى أن هذه نظرة ضيقة ومحدودة، لا تخدم اللغة العربية؛ فأي مصطلح غير مستساغ اليوم، سوف يأتي يوم يستساغ فيه مثل (البتروكيماوي) وغيره، وهذا ما أيده الدكتور إبراهيم أنيس قائلا:«... نشعر أن النحت في بعض الأحيان ضروري يمكن أن يساعد على تنمية الألفاظ في اللغة، لذا نرى الوقوف منه موقفا معتدلا، ونسمح به حين – تدعو الحاجة الملحة إليه».أما الدكتور/ حامد صادق قنيبي فـ«جعل من النحت»أحد روافد تنمية اللغة المعاصرة، وخاصة في مجال المصطلحات العلمية، والألفاظ الحضارية التي يكثر دورانها على ألسنة الناس، ولكنه رافد يأتي في المرتبة الأخيرة"... مضيفا«أنه يجب ألا نعلق الآمال العريضة على النحت، كما لا ينبغي أن نوصد بابه فللنحت فوائد في تيسير الاختصار فحسب، فإذا أدى هذا الاختصار إلى ولادة الغرائب الممجوجة على الألسن، والعسيرة على الأسماع فالأولى هجره والصدود عنه، وربما كان في الترجمة بكلمتين مندوحة لنا عن غريب النحت». الدكتور حامد صادق قنيبي، قدم رجلا وأخر أخرى، هو مع النحت، وفي الوقت ذاته هو ضده، دون أن يقدم معيارا واضحا، لذا جاءت عبارته مضطربة لا نفهم منها ماذا يريد بالضبط، أنلغي النحت أم نعمل به؟ ولعل عبارة د. محمد ضاري حمادي على قصرها جاءت واضحة حيث يقول: «للنحت فوائد في تيسير الاختصار، والتوليد للجديد من الكلمات»، ولكن ما يجب الوقوف عليه في شأن النحت أمران يراهما غاية في الأهمية: «الأول – متى ننحت؟ والآخر – كيف ننحت؟». وتقول الدكتورة وجيهة السطل: «النحت فعلا وسيلة تساعدنا في الحصول على مصطلح جديد في اللغة العربية حين تعجزنا الوسائل الأخرى، ولكن الوسيلة إذا كانت بلا ضابط ينظمها، ويبين للجميع طريقة الحصول عليها، تحولت – إذا أبحناها مطلقا – إلى نوع من الفوضى والعبث بألفاظ اللغة...». ولعل الأقرب إلى المعيارية ما قاله أحمد شفيق الخطيب إن «المواصفة المـُصطلحية السليمة في العلوم، بل حتى في ما سواها، تقتضي أن تكون المنحوتات واضحة المعنى سلسة المبنى بعيدة عن الإبهام وما يـَمـُجـُّهُ الذوق لغرابته وحوشيته. ومن هذا المنطلق دخل اللغة العلمية خلال القرن الحالي، بداعي الضرورة العلمية، عشرات من المنحوتات لا قى بعضها رواجا ومقبولية مثل الصفات(برمائي في amphibian، كهرمغناطيسي أو كهرمغنيطي في electromagnet، جيوفيزيائي في geophysical)».
* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com